على مدى الأيّام الماضية، حاولت “مصادر” وزارة المال ومصرف لبنان التقليل من شأن تقرير وكالة “فيتش”، التي قرّرت التوقّف عن تصنيف عن لبنان وتحليل مؤشّراته، بالنظر إلى غياب الداتا المطلوبة لذلك. ولسان حال “المصادر” يتساءل عن جدوى هذا التصنيف، أو تلك التحليلات، إذا كان لبنان قد تخلّف أساسًا عن دفع السندات منذ أكثر من أربع سنوات، وإذا كان تصنيفه قد استقرّ في القعر الأدنى منذ ذلك الوقت. بطبيعة الحال، لم يجرؤ مسؤول رسمي أو مالي على التصريح علنًا بهذا الكلام، الذي يكفل لقائله تصنيفًا أدنى من تصنيف الجمهوريّة المتعثّرة والفاشلة ماليًا، في أوساط أسواق المال. هؤلاء يملكون مستقبلهم المهني وطموحهم الشخصي، ولذلك: “المصادر” هي لعبتهم المفضّلة هنا.
وكانت “المدن” قد واظبت على مدى الفترة الماضية في التذكير -وبعشرات المقالات- بتدنّي مستويات الشفافيّة ومعايير الإفصاح المالي، وخصوصًا في وزارة الماليّة ومصرف لبنان. في بعض الأحيان، كان التلاعب بالمؤشّرات النقديّة والماليّة، بل وحتّى إخفاء بعضها، يصل إلى حدود الفضيحة. وبدل الاستجابة ونشر التقارير والجداول والمعلومات المفصّلة، كانت الردود تأتي عبر “المصادر” أو “الخبراء” أو “الأوساط المقرّبة”، وبشعارات رنّانة وفضفاضة، أو بشائعات تطال المنتقدين، من دون تقديم إجابة واحدة على الهواجس المطروحة. هذا النمط، الموروث من أيّام رياض سلامة، والمستمرّ حتّى يومنا هذا، بات نهجًا في إدارة الشأنين المالي والنقدي.
الاستخفاف فضيحة كبرى
الاستخفاف بتقرير “فيتش”، يرقى إلى فضيحة تتجاوز وطأتها وفداحتها فضيحة إخفاء المعلومات أو التقاعس عن إعدادها ونشرها. والقول أنّ لبنان متعثّر أساسًا، لتبرير عدم أهميّة التصنيف أو التحليلات الإئتمانيّة، لا يعكس سوى جهل قائله أو سعيه لتضليل الرأي العام.
الجمهوريّة المتعثّرة، سيكون عليها عاجلًا أم آجلًا مفاوضة الدائنين، للوصول إلى اتفاق إعادة هيكلة للديون. الاتفاق، يُفترض أن ينص على تنازل الدائنين، وقبولهم باستحقاقات جديدة -ومؤجّلة- للدين، وبحسومات وازنة من أصل الدين وقيمة فوائده المتراكمة. التنازل المُكلف من جانب الدائنين، والذي قد يشطب أكثر من ثلثي الدين المستحق، سيكون مقابل مكسب وحيد: تمكّن الدولة من إثبات قدرتها على سداد الدين بعد إعادة هيكلته. هذه القدرة، والثقة بنوايا الدولة وحسن نيّتها، هي كل ما سيملكه المفاوض اللبناني على طاولة المفاوضات. ومن دون الاتفاق، لن تعود الدولة يومًا إلى أسواق الدين العالميّة، مهما فعلت.
هنا نصل إلى النقطة الأهم: هل يمكن للدولة أن تنطلق في مفاوضات جديّة مع دائنيها، من دون امتلاك الأرقام والمؤشّرات التي تُعنى بحقيقة الوضع المالي والنقدي؟ وهل ستُقنع الدائنين بجدوى التنازل وإعادة هيكلة الديون، بصفقة ستمتد مفاعيلها لعقود من الزمن، إذا كانت غير قادرة على إقناع وكالة تصنيف ائتماني بحقيقة وضعها المالي الراهن؟ وعلى هذا الأساس: هل يطمح لبنان -بإدارته الماليّة والنقديّة الراهنة- للعودة إلى أسواق المال الدوليّة فعلًا، أم أن الخيار هو العزلة التي يعيشها اليوم؟
ثمّ إذا كان هناك اتفاق على أهميّة برنامج صندوق النقد الدولي، كشهادة ثقة، هل ستتمكّن الجمهوريّة اللبنانيّة من إقناع الصندوق بمسار التعافي المالي الموعود بغياب هذه المعلومات؟ وكما هو واضح، لم يلتفت المسؤولون -الذين استخفّوا بخطورة إخفاء البيانات- إلى إشارات بعثة الصندوق المتكرّرة، للجانب المتعلّق بالشفافيّة الماليّة، وبأهميّة العودة إلى نشر الداتا والبيانات الدقيقة والصحيحة.
وما ينطبق على صندوق النقد هنا، ينطبق كذلك على جميع المؤسسات الماليّة الدوليّة التي يطمح لبنان للاستفادة من دعمها في المستقبل. ومن هذه المؤسسات البنك الدولي مثلًا، الذي لطالما ربط دعمه لقطاع الكهرباء اللبناني بتحسين تقارير المراجعة الماليّة ومؤشّرات الأداء الرئيسيّة، نظرًا للغموض الذي يحيط بوضعيّة القطاع الماليّة في الوقت الراهن. ولهذا السبب بالتحديد، ربط البنك الدولي قرضه لتمويل شراء الغاز المصري بالتدقيق في أرقام القطاع، وهو ما لم يتم حتّى هذه اللحظة.
لكن بعيدًا عن متطلّبات التفاوض مع الدائنين والمؤسسات الدوليّة، من الأكيد أن صياغة أي خطّة ماليّة ذات مصداقيّة سيكون متعذّرًا، بغياب البيانات البديهيّة التي تعكس وضعيّة الماليّة العامّة وميزان المدفوعات والحسابات القوميّة وغيرها. وهذا ما يمكن استنتاجه عند مراجعة الخطّة الحكوميّة الأخيرة نفسها، التي افتقرت في كثير من أجزائها لبعض المعلومات النقديّة والماليّة الأساسيّة، وهو ما فتح باب الطعن في الفرضيّات التي قامت عليها الخطّة.
سوء النيّة في طمس البيانات أو التلاعب بها
من المهم الإشارة إلى أنّ عمليّة التلاعب ببعض البيانات الحسّاسة لم تكن من باب فقدان المعطيات، أو عدم توفّر الموارد البشريّة اللازمة لإعداد الداتا.
يمكن هنا على سبيل المثال تناول مسألة التحايل في عمليّة إعداد أرقام ميزان المدفوعات، التي تعمّدت اتّباع منهجيّة غير مألوفة، للمبالغة في حجم الفوائض التي يعكسها هذا المؤشّر. ومن المعلوم أن مؤشّر ميزان المدفوعات يفترض -حسب تعريفه- أن يعكس صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج، في حين أنّ المصرف المركزي أخذ بالاعتبار -عند إعداد الأرقام- بعض التغيّرات المحاسبية الناتجة عن تعديل سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّات المصرفيّة، وهو ما لا يمثّل أي عمليّة تبادل ماليّة فعليّة مع الخارج.
من جهة أخرى، ثمّة بيانات مفقودة لا يفترض أن يستلزم نشرها أي جهد إضافي على مستوى الموارد البشريّة المتاحة، مثل تفاصيل حسابات المصرف المركزي، وطبيعة الإلتزامات المترتبة عليه. إذ منذ العام الماضي، اكتفى المصرف المركزي بنشر البيان الموجز نصف الشهري، الذي يعكس الحجم الإجمالي لودائع القطاع العام والقطاع المصرفي واحتياطات العملة الأجنبيّة. لكنّ المصرف توقّف عن نشر التقرير الذي يفصّل الإلتزامات بالدولار “الطازج” والليرة لمصلحة الدولة والمصارف، في مقابل الاحتياطات الموجودة. وهذا ما يخفي -عن قصد- الكثير من المؤشّرات التي تبيّن طبيعة السياسات التي يعتمدها المصرف حاليًا، ومستوى السيولة فيه بعد الأخذ بالاعتبار توزّع المطلوبات.
على المقلب الآخر، من غير المفهوم أن لا تنشر وزارة الماليّة بيانات بديهيّة مثل أرقام الماليّة العامّة، أي مجموع النفقات والإيرادات الفعليّة، حيث يعود تاريخ آخر بيانات متوفّرة على هذا المستوى للعام 2021. مع العلم أن جميع المعطيات المطلوبة لجمع هذه البيانات موجودة أساسًا في الوزارة. وهذا ما يطرح السؤال عن كيفيّة إعداد موازنة العام الحالي، وكيفيّة تقدير النفقات والإيرادات فيها، إذا كانت الوزارة لم تجمع الأرقام المرتبطة بالعامين السابقين. وعلى النحو نفسه، يمكن التساؤل عن كيفيّة إعداد أي توقعات ماليّة حاليًا، بغياب أرقام الحسابات القوميّة للعامين الماضيين، التي تعكس حجم الناتج المحلّي.
باختصار، عمليّة طمس البيانات الماليّة، أو التأخّر في إعدادها، أو التلاعب بمنهجيّة احتسابها، ليست مسألة بريئة. بعض السياسات المتبعة حاليًا، مثل المبالغة في التقشّف وحجز الإيرادات العامّة في مصرف لبنان، تقوم أساسًا على موازنة وهميّة جرى إعدادها غب الطلب، ولهذه الغاية بالتحديد. بمعنى آخر، قامت موازنة العام الحالي أساسًا على تقديرات منخفضة جدًا وغير واقعيّة للإيرادات العامّة، لتبرير “عصر” النفقات إلى أقصى حدود، وخفض الاعتمادات المقدّرة للإدارات العامّة على هذا الأساس. وفي الوقت الراهن، تتلكّأ وزارة الماليّة عن منح الإدارات العامّة السيولة المطلوبة، حتّى ضمن سقوف إعتمادات الموازنة، بذريعة شح الإيرادات.
هكذا، يمكن القول أنّ طمس بعض المعطيات كان مسألة هادفة سياسيًا، لتمكين وزارة الماليّة والمصرف المركزي من اتباع هذه السياسة الماليّة والنقديّة، والتي ترتكز أساسًا على تقديرات غامضة أو غير دقيقة بخصوص حجم الإيرادات العامّة وودائع الدولة لدى المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أنّ تقرير وكالة “فيتش” تحدّث بشكل صريح جدًا عن غياب المعلومات المتعلّقة بماليّة الدولة العامّة، والحسابات القوميّة، عند تبرير قرار سحب التصنيف.
هكذا، يعطي الغموض المالي القيمين على السياسات الماليّة والنقديّة هامشًا أوسع للحركة، عند اعتماد الإجراءات “السامّة”.