تنتظر الجاليات اللبنانية المغتربة فصل الصيف بفارغ الصبر كل عام، فهو الفرصة الثمينة لزيارة البلاد والأهل، للاستمتاع بإلفته وجماله ولقاء الأحبة والعائلة. العديد منهم يؤجلون جميع عطلاتهم لتتزامن مع شهر آب، ليكون لبنان هو الوجهة التي يحنّون إليها دائمًا، ولإعادة شحن طاقتهم النفسية.
هذا العام، واجه انتظار المغتربين أحداثًا غير مسبوقة، وضعت خططهم ومشاعرهم في موضع اختبار. التوترات الأمنية المتصاعدة والحرب الدائرة ألقت بظلالها على رغبتهم في العودة. منذ بداية الصيف، تردد البعض، بينما أصرّ آخرون على قرار المجيء. ولكن بعد اتخاذ القرار، جاءت ضربة مجدل شمس لتزيد الأمور تعقيدًا، ما أثار الذعر بين اللبنانيين في الداخل والخارج، لتتفاقم أخيراً مع العدوان الإسرائيلي بغارة على الضاحية الجنوبية.
الأحداث الأمنية دفعت شركات الطيران إلى إلغاء العديد من رحلاتها قبل أيام قليلة، والغارة الإسرائيلية وضعت المغتربين أمام خيار صعب: هل يأتون إلى وطنهم رغم المخاطر أم يبقون في الخارج؟
خوف.. ولا رحمة!
محمد فارس، أب لابنتين من البقاع، ومقيم في غانا منذ عام 2013، يروي لـ”المدن” تفاصيل معاناته هذا العام. كان من المقرر أن يسافر إلى لبنان في بداية شهر آب، لكن الوضع الأمني الحالي جعله يشعر بعدم الاطمئنان. يقول محمد: “عائلتي وصلت إلى لبنان قبل أسبوعين، وكان من المفترض أن ألحق بهم، لكنني الآن أفكر في إلغاء سفري واستعادة عائلتي إلى هنا.”
ويضيف: “أنا من البقاع، حيث لا يوجد خطر حقيقي، لكن خوفي الأكبر هو أن أعلق في لبنان ولا أستطيع العودة إلى عملي في إفريقيا. في الاغتراب، لا يوجد مجال للرحمة، وقد يتم استبدالي بسرعة إذا غبت لفترة طويلة.”
في السياق نفسه، تقول كريستال، التي فضلت عدم ذكر اسمها الكامل، وتبلغ من العمر 29 عامًا، والمقيمة في فرنسا منذ عام 2022: “تخرجت من الماجستير هذا العام وكنت أنتظر بفارغ الصبر زيارة لبنان للاحتفال بهذه المناسبة، خصوصاً أنني لم أزر عائلتي منذ سنتين. ولكن الوضع الأمني الحالي غير مشجع. وقد حصلت على فرصة عمل جديدة ولا يمكنني تحمل المخاطرة.”
وفيما يتعلق بعائلتها، تعبر كريستال عن قلقها: “أهلي لا يشجعونني على القدوم، وأبي يقول لي يوميًا، كلما حدثت مشكلة، ‘شفتي قلتلك بلالك هالنزلة’. أفكر مرارًا في استدعائهم إلى هنا، لكنهم غير موافقين.”
تختم حديثها والغصة في صوتها: “انزعجت وبكيت كثيرًا عندما ألغيت حجزي، لكن من أجل مستقبلي ومستقبل عائلتي، أعتقد أن البقاء هنا هو الخيار الأفضل.”
إصرار و”مقاومة”!
في المقابل، يصرّ جاد مصطفى، العشريني، من قرية الوردانية في قضاء الشوف، والمقيم في فرنسا منذ خمس سنوات، على زيارة لبنان في 13 آب كما كان مخططًا. يؤكد جاد لـ”المدن”: “لم أفكر أبدًا في إلغاء حجزي، بل أصبح لدي إصرار أكبر على المجيء إلى لبنان.”
ويضيف: “الشعور بالخوف أو التوتر الذي سأشعر به إذا اندلعت الحرب وأنا بعيد عن أهلي سيكون أسوأ بكثير من التواجد معهم في الحرب”. ويجزم قائلاً: “مصيري مرتبط بمصير أهلي وكل الناس في لبنان. لا أستطيع أن أكون بعيدًا عنهم في هذا الوقت العصيب.”
أما عن كارول مصري، البالغة من العمر 26 عامًا، من المنية شمال لبنان، والتي تعيش في السعودية منذ العام الماضي، فتقول: “حجزت منذ فترة للسفر في 15 آب، وأنا مصممة على القدوم إلى لبنان طالما الرحلة قائمة”. تضيف كارول موضحة أن السبب الأساسي لإصرارها هو رؤية أهلها وأصدقائها، مشيرة إلى أنه “لولا هؤلاء، لكنت قد سافرت لقضاء عطلة سياحية في بلد آخر.”
أما عن وضعها النفسي، فتلفت كارول إلى أنها متوترة وخائفة من الوضع الأمني، لكنها وأهلها يتوقون لرؤية بعضهم البعض. وتؤكد أنه إذا لم تأتِ إلى لبنان، سيكون الوضع أصعب.
في الإطار عينه، يشير فاروق يعقوب، الأب لولدين، وهو من بلدة حولا الجنوبية والذي يعمل بين لبنان والخارج، وحاليا في العراق، قائلاً: “كانت رحلتي مفترضة في 30 تموز، ولكنها ألغيت. الآن، سفرتي ستكون في 5 آب، وأنا أتوق لهذه الرحلة لأكون بالقرب من أولادي وعائلتي. هذه المرة الأولى التي يحدث فيها توتر أمني وأنا بعيد عنهم، والوضع متوتر جداً”.
أنهى حديثه قائلاً: “كنت أفكر حتى في خطة بديلة للوصول إلى لبنان إذا تضرر المطار أو ألغيت الرحلات بالكامل، ليس فقط من أجل عائلتي، بل لأن لدي انتماء قوي جدًا لبيروت.”
في الختام، يواجه المغتربون تحديات كبيرة تتطلب تخطيطًا واستعدادًا دقيقين. إذا تعرض المطار لهجمات أو تدهورت الأوضاع الأمنية أكثر، فإن خياراتهم ستكون محدودة ومعقدة. التأجيل أو الإلغاء المفاجئ للرحلات الجوية سيعني أن المغتربين قد يجدون أنفسهم عالقين، إما في بلدهم المضيف أو في وطنهم الأم في ظل ظروف غير مستقرة.
هكذا هو لبنان مع أبنائه، سواء المقيمين فيه أو المغتربين عنه. لا يعانون فقط من مشقة البعد، بل أيضًا من القلق المستمر على أهلهم ووطنهم.