شيخوخة المجتمع… تكلفة اقتصادية باهظة يتكبدها لبنان!

لم تكتف الأزمة المالية التي عصفت بلبنان منذ 5 سنوات بالكارثة الاقتصادية ونتائجها السلبية على كافة القطاعات، بل أضحت واحدة من الأزمات الأكثر تأثيراً على المستوى الإجتماعي، وهو ما يرتد بدوره على الإقتصاد الكلّي فيراكم أعباء مالية تتجلّى تكلفتها في المديين المتوسط والبعيد.

أزمة العصر تلك تتسبب بحدوث تغييرات ديموغرافية في لبنان، لاسيما على مستوى انخفاض الولادات، وهو ما أدخل المجتمع اللبناني في مرحلة “الشيخوخة”، حسبما كشفت دراسة حديثة صادرة عن “الدولية للمعلومات” التي أشارت إلى تراجع النمو السكاني بنسبة 39.8 في المئة، ما يعني انخفاض أعداد الولادات، وارتفاع نسبة كبار السن.

دخول لبنان هذه المرحلة، سيزيد من عمق الأزمة الاقتصادية، ليس فقط على المدى القصير، بل أيضاً ستكون تأثيراته واضحة على المدى البعيد. فما هي تداعيات التغيير الديموغرافي على الإقتصاد اللبناني؟

بيانات مخيفة
كشفت الدراسة عن انخفاض معدلات الولادات في السنوات الماضية، ووفق مراجعة لأعداد الولادات والوفيات في العام 2023 تبيّن أنّ الزيادة السكانية كانت ضئيلة أو شبه معدومة في المدن، رغم ارتفاعها في المناطق الزراعيّة.

وأظهرت أنه خلال الأعوام 2016- 2019 وصل عدد الولادات إلى 354.866 فردا مقابل 100.771 وفاة بزيادة مقدارها 254.095 فرداً، أي بمتوسط سنوي 63.523 فرداً، فيما تبين بأنه منذ العام 2020 -2023، انخفض عدد الولادات إلى 271.913 فرداً مقابل ارتفاع الوفيات إلى 119.101 فردًا، بزيادة مقدارها 152.812 فردًا أي بمتوسط سنوي 38.203 أفراد. وفي مقارنة ما قبل الأزمة وما بعدها يتبيّن تراجعاً في النمو السكاني بنسبة 39.8 في المئة. فماذا تعني هذه الأرقام؟

ببساطة تشير هذه الأرقام إلى أن لبنان على موعد مع أزمات جديدة، ليس فقط اقتصادياً، بل مالياً واجتماعياً، وتظهر عواقبها من خلال نقص اليد العاملة، ارتفاع نسب الفقر وتزايد تكلفة الطبابة والإستشفاء.

نقص اليد العاملة
أحد أبرز الانعكاسات الخاصة بشيخوخة المجتمع اللبناني، تتعلق بنقص في اليد العاملة. فقد خسر لبنان خلال الأزمة الحالية، الكثير من شبابه، الذين فضلوا السفر والهجرة. خَرَجَ من لبنان بين العامين 2017 و2023 نحو 425 ألف شاب، بينهم 180 ألفاً هاجروا في العام 2023، وتبين أن ما لايقل عن 70 في المئة من اللبنانيين المهاجرين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عاماً.

ونتيجة ذلك، فإن الأعداد السكانية التي لا تزال في لبنان، بلغت في أفضل السيناريوهات حاجز 40 عاماً، ما يعني أنه خلال السنوات القادمة، ستظهر تأثيرات نقص اليد العاملة بشكل واضح، خصوصاً أن النمو السكاني في تراجع، وبالتالي قد تضطر مؤسسات اقتصادية عديدة سواء أكانت صناعية، تجارية، أو ما شابه إلى إقفال أبوابها.

وبحسب دراسة عن مجلة الاقتصاد الأميركي، فإن كل زيادة بنسبة 10 في المئة في نسبة السكان الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً تؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.5 في المئة. ولفتت الدراسة الأميركية إلى أن ثلث هذا الانخفاض يأتي نتيجة لتباطؤ نمو العمالة من جهة وإن ثلثي هذا الانخفاض، يأتي نتيجة لتباطؤ نمو إنتاجية العمل. وهذا ما يشير إلى أن انخفاض نسبة النمو السكاني في لبنان يؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي، الذي يعاني أصلاً من انخفاض حاد.

ارتفاع نسبة الفقر
قد لا تظهر الصلة المباشرة بين الفقر وارتفاع سن السكان، خصوصاً وأن معظم دول العالم لديها برامج تنمية اجتماعية وأنظمة تقاعد تساهم من خلالها بتأمين حياة لائقة لكبار السن، لكن لطالما شكّل لبنان استثناءً. فقبل العام 2019، كان نظام التقاعد في لبنان سخيّاً لشريحة من المستفيدين منه وتحديداً لنحو 20 في المئة، وهم موظفو القطاع العام، أما بعد العام 2019، أصبح جميع المتقاعدين وحتى الموظفين فقراء، بكل ما للكلمة من معنى، نتيجة انهيار العملة، وحجز المصارف لأموال المودعين.

ومن غير المستبعد أن يوسّع الاتجاه “السلبي” لنسبة نمو السكان، دائرة الفقر، خصوصاً أن الأرقام الصادرة من البنك الدولي، في شهر أيار الماضي، أظهرت الارتفاع المخيف لمعدلات الفقر خلال العقد الماضي والتي تخطت 44 في المئة، وهذا يعني أن أعداداً إضافية من الفقراء ستضاف إلى النسبة أعلاه، ومع غياب أي خطط للنهوض الاقتصادي، ستكون الصورة قاتمة حتمياً.

ارتفاع تكلفة الطبابة
من البديهي أن ارتفاع أعمار اللبنانيين، له تأثير على النظام الصحي، لناحية الضغط على الميزانية من جهة، وإجبار الوزارة على تقديم الرعاية الصحية، خصوصاً أن عدداً كبيراً من اللبنانيين غير مشمول بأي تغطية صحية سواء تلك الخاصة بمؤسسة الضمان الاجتماعي، أو أي شكل آخر من أشكال التأمين الصحي، وسبق وكشفت إدارة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية في العام 2022، أن 51 في المئة من القوى العاملة اللبنانية حالياً تفتقر إلى أي نوع من الضمان الصحي والاجتماعي. وهذا يعني أن وزارة الصحة ستسعى إلى تحويل جزء كبير من ميزانيتها لمعالجة كبار السن، والضغط على الحكومة اللبنانية لتأمين المبالغ المطلوبة.

ناهيك عن أن عمليات استيراد الأدوية، ستكون أيضاً مكلفة على خزينة الدولة من جهة، ومن جهة ثانية مع رفع الدعم الدوائي، لن يتمكن الكثير من الفقراء في لبنان من تأمين ثمن الدواء للاستفشاء.

الضغط على ميزانية الدولة
بعيداً عن الإنفاق الصحي، فإن ميزانية الدولة اللبنانية ستكون الأكثر تأثراً من ارتفاع نسبة كبار السن، ببساطة لأن الحصول على الإيرادات سواء من خلال خطط اقتصادية، أو فرض ضرائب وجباية، ستتراجع عملياً، نتيجة انخفاض دورة العمل، وانخفاض الجباية، وهذا يعني الاستمرار في دائرة المديونية، وانخفاض الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية والاقتصادية.

وليس من السهل، أن تتحوّل قوة الاقتصاد اللبناني المتمثلة في رأس ماله البشري، إلى نقمة، قد تتسبب في استمرار الضغط على المؤشرات الاقتصادية كافة.

 

مصدرالمدن - بلقيس عبد الرضا
المادة السابقةصندوق استرجاع الودائع: دسّ السمّ في العسل
المقالة القادمةعملية تزوير تُعيد تحريك ملف تسجيل الخطوط الخلوية