ليس جديدًا الحديث عن تقاطع شبكات الجرائم الماليّة وتبييض الأموال بين بيروت وبغداد. يمكنك أن تستعيد في لحظات سلسلة من العناوين التي حفلت بها تقارير الصحافة الاستقصائيّة حينًا، وما تواتر من أحاديث الصالونات السياسيّة أحيانًا: من أموال رموز النظام العراقي السابق، وبعض القيادات الكرديّة، التي حطّت ثم “سُجنت” في مصارف لبنان بعد الأزمة، إلى سوق الصيرفة السوداء المتداخلة والمتشابكة بين البلدين، وشبكات تهريب الدولارات التي ازدهرت مع ازدهار اقتصاد النقد الورقي في البلدين معًا.
السياسة تلعب دورها، وكذلك طبيعة الأزمات النقديّة، ومعها هشاشة أطر الحوكمة والرقابة الحكوميّة. وليس صدفة أن يكون ذلك في عاصمتين تعرفان نموذجًا من التحاصص الطائفي، وتقاسم النفوذ الإقليمي، المُساكنة الجبريّة ما بين الدولة وما تنامى خارجها من مراكز قوّة.
بينما كانت بيروت تتابع تطوّرات التحقيق مع رياض سلامة، الذي أثلج توقيفه قلوب الكثير من اللبنانيين، كان القضاء العراقي يصدر هذا الأسبوع قرارات بتوقيف ستّة من كفلاء المتّهمين بقضيّة “سرقة القرن”. إلقاء القبض على الكفلاء، كان بمثابة “بدل عن ضائع”، لتبريد الشارع وامتصاص الغضب الشعبي، بعدما توارى عن الأنظار نجم الفضيحة الأوّل، نور زهير المظفّر. تفاصيل قصّته، التي باتت محورًا لحريق سياسي اندلع ولن يخمد قريبًا، تذكّر كثيرًا بأحد أبطال فضيحة “سرقة القرن” اللبنانيّة، رياض سلامة. ما نعرفه أيضًا، هو أنّ نور زهير المظفّر كان له شأنٌ ما في بيروت، إذ افتعل في ضواحيها مسرحيّة حادث مروري مزيّف الشهر الماضي، لتبرير “الاختفاء” ومن ثم الفرار باتجاه تركيا.
“سرقة القرن” بالنسخة العراقيّة
نور زهير المظفّر لم يكن مصرفيًا أو حاكمًا للمصرف المركزي، ولم يُقدم على “سرقة القرن” كمسؤول رسمي، كحال زميله في الكار، رياض سلامة. ومع ذلك، يمكنك أن ترصد في سيرته بداية الخيوط التي نسجها داخل الدولة: سبق له العمل في الموانئ العراقيّة، ثم كمستشار في مكتب رئاسة اللجنة الماليّة النيابيّة. وفي النهاية، تحوّل إلى بطل سرقة ضخمة للأموال العموميّة، بصفته “رجل أعمال” والمدير المفوّض لشركة “مبدعون للخدمات النفطيّة”. في تلك الفضيحة، طال التحقيق ثلاثين متّهمًا، لكنّه كان المتّهم رقم واحد.
“الأمانات الضريبيّة”، كانت مجموعة من المبالغ التي تم اقتطاعها وتجميدها من مداخيل الشركات النفطيّة، بهدف ضمان حقوق الدولة الضريبيّة لاحقًا. المبدأ الأساسي هنا، هو أن يتم تحرير المبالغ لاحقًا، وتسليم الشركات الفائض من هذه الإيداعات، بعد اقتطاع أو تسديد الضريبة المتوجبة على الأرباح. يُشبه هذا المفهوم كتاب الضمان في لبنان، الذي يُصدره المتعهّد من المصرف قبل بدء الأعمال لمصلحة الدولة، لضمان حقوقها في حال أخلّ بموجبات التعاقد. كتاب الضمان، غالبًا ما يكون مقابل تجميد مبالغ ماليّة في المصرف نفسه، كحال “الأمانات الضريبيّة” في حالة العراق.
ما جرى في “سرقة القرن” كان بسيطًا: شبكة من أكثر 30 متهمًا، على رأسهم بطل الفضيحة نور زهير المظفّر، تواطأت لتحرير 247 صكًا، للاستيلاء على مبلغ قاربت قيمته الـ 2.5 مليار دولار أميركي، من الأمانات الضريبيّة المودعة من مصرف الرافدين الحكومي. المبالغ التي ذهبت إلى خمس شركات وهميّة، تم سحبها نقدًا خلال الفترة الممتدّة بين أيلول 2021 وآب 2022، أي خلال ولاية رئيس الحكومة العراقيّة السابق مصطفى الكاظمي. وقبل شهرين من انتهاء ولاية الكاظمي نفسه، أي في أواخر صيف العام 2022، بدأت رائحة الفضيحة بالتسرّب إلى وسائل الإعلام.
هنا، لا نتحدّث عن فساد تقليدي مرتبط بالصفقات العامّة، الذي غالبًا ما يتخذ شكل “تعليب” دفاتر شروط المناقصات على مقاس شركة معيّنة، أو التلاعب بنتائج المناقصات نفسها، او المبالغة في كلفة أعمال نفّذها متعهّد لحساب الحكومة. الفضيحة، سرقة مباشرة من حسابات مصرفيّة، بما يشبه مدّ اليد على الصندوق وسحب الأموال مباشرةً. تزوير الصكوك أو التلاعب بالعمليّات المحاسبيّة، لها نتيجة واحدة: تحويل مباشر وغير مشروع للأموال من حساب إلى حساب. هذا النوع من الفساد، لا يحصل إلا عندما ينخر الاهتراء أبسط أطر الرقابة التقليديّة، التي يفترض أن ترعى هذا النوع من التحويلات المصرفيّة.
يمكن للبناني أن يستعيد فورًا عناوين فضائح النسخة اللبنانيّة من “سرقة القرن”. نماذج مثل “فوري” و”أوبتيموم” في حالة رياض سلامة، لم تكن سوى شركات تم استعمالها لتحويلات مباشرة، من حساب مصرف لبنان إلى حسابات خاصّة، ثم إلى أسواق المال والعقارات في أوروبا. هذا النوع من العمليّات، لم يكن ممكنًا لولا الترهّل الذي ضرب جميع معايير الحوكمة في المصرف المركزي، والتي سمحت بوقاحة تصل إلى حدود سحب مئات ملايين الدولارات بشخطة قلم من رياض سلامة. هذا الترهّل، هو تحديدًا ما أصاب المؤسّسات العراقيّة، التي تعرّضت سابقًا لحملات إداريّة هوجاء، لإلغاء مكاتب المفتّشين العموميين.
القضاء والحماية السياسيّة
بعد فتح الملف في القضاء العراقي عام 2022، وبعدما طاولت التوقيفات مقرّبين من رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي، بدا أنّ وراء الفضيحة وجوه وأسماء كبيرة، على المستوى السياسي. وتمامًا كحال رياض سلامة، كانت التحليلات تشير إلى أنّ هناك شركاء مخفيين، من النوع الذي لا تطاله في العادة المحاسبة. اختلاس مبالغ بهذا الحجم، لم يكن ممكنًا منذ الأساس، لولا وجود تواطؤ على مستوى حكومي رفيع داخل الدولة العراقيّة.
سرعان ما أكّدت الأحداث بعض المشكّكين بجديّة التحقيق: في كانون الأوّل 2022 قرّر القضاء العراقي إطلاق سراح بطل الفضيحة الأوّل، نور زهير المظفّر، لتمكينه من “إعادة الأموال المختلسة”!. المثير للسخرية هنا، هو أن القرار اعترف بالفضيحة وبحقيقة وجود الاختلاسات، ولكنّه اعتبر أنّ استعادة الأموال غير متاحة إلا بتحرير المتّهم الأساسي في الملف. وفي تلك المرحلة، لم تكن الدولة العراقيّة قد استعادت إلا نحو 5% من المبالغ المسروقة من الأمانات الضريبيّة. التفسير الوحيد لذلك القرار، كان وجود مصلحة سياسيّة بتمكين المتّهم الأساسي من الفرار، لتفادي الكشف عن ما هو أعمق في تلك العمليّات.
وكما هو متوقّع، لم يعد نور إلى المحكمة، ولم يرد المبالغ المختلسة. بل قام بالتمثيليّة التي أِشرنا إليها في لبنان، وفرّ متوجّهًا إلى تركيا، قبيل بدء المحاكمات في قضيّة “سرقة القرن”. في تلك الحادثة، ما يثبت أيضًا وجود تواطؤ قضائي سياسي يقضي بتغطيته، إذ تبيّن لاحقًا أن السلطات العراقيّة لم تكن قد عمّمت بعد مذكّرة توقيف دوليّة بحقّه لدى الإنتربول، وهو ما سمح لبطل الفضيحة بزيارة لبنان ومن ثم مغادرته بشكل طبيعي.
في هذا الغطاء ما يُذكّر بمسألة سلامة من جديد: نور زهير المظفّر شخصيّة من النوع الذي يهدّد السياسيين علنًا عبر التلفزيون بفضح “أسماء وتفاصيل قضايا الفساد”، في إشارة إلى أنّه يعرف أكثر مما يجب. هو المتورّط الذي يعرف شركاءه جيدًا، وإذا سقط، فهو لن يسقط وحده. ونور، شخصيّة يتّهمها رئيس الحكومة الحالي محمد شيّاع السوداني بتوزيع الأموال على “سياسيين وإعلاميين”، وبنيله غطاءً سياسيًا لتنفيذ عمليّة الاختلاس والهروب من القضاء.
التوازنات السياسيّة
ثمّة الكثير من التحليلات التي تشير إلى أن السوداني نفسه يدفع بكل ثقله، خلف هيئة النزاهة العراقيّة، التي تخوض المعركة ضد تقصير القضاء، في ملف نور زهير المظفّر. بهذا المعنى، يمكن لهذه المقاربة أن تصوّر نور كمتهم محمي من قوى “الدولة العميقة”، التي تمتد أذرعها في القضاء والإعلام ومؤسسات الدولة، في مقابل هيئة النزاهة التي تحارب “منظومة كاملة” و”رؤوس كبيرة”. لكنّ في الوقت نفسه، يمكن لهذه المقاربة أن تدفعنا لتصوير المشهد من زاوية أخرى: هل هناك مصلحة سياسيّة ما، تدفع السوداني لاستخدام الملف ضد المجلس الأعلى للقضاء وبعض القوى السياسيّة المناوئة؟ هل يستخدم السوداني الملف لتنظيف الساحة من بعض رموز المرحلة السابقة، أو على الأقل الضغط عليهم؟
سيفهم اللبناني هنا سريعًا ما يوازي هذا النقاش في بيروت: هل استثمر عهد ميشال عون سياسيًا في تحريك ملف رياض سلامة، لابتزاز الخصوم، أم خاض معركة المحاسبة حتّى النهاية بالفعل؟ هل كانت وجوه مثل غادة عون وهيلينا إسكندر مجرّد عناوين لمواجهة قضائيّة، تخفي في طيّاتها صراع على النفوذ السياسي؟ هل سقط سلامة بفعل هذا المسار، أم لتحقيق أهداف أخرى تتصل بالضغوط خارجيّة؟
على هامش القضيّتين معًا، في لبنان والعراق، ثمّة أسئلة لا تنتهي حول العوامل الخارجيّة والدوليّة، ودورها في فتح الملفّات وتحريكها لتنظيف الساحة من الوجوه التي أدّت المهام القذرة في السابق. فبيروت، كما بغداد، مكشوفة على لعبة تقاسم نفوذ إقليمي ودولي معروفة المعالم. وفي هذه اللعبة تسقط أسماء، وتُحرق أسماء أخرى. وتُستعمل ملفّات لتذكير رموز -مثل مصطفى الكاظمي- بأنّ هناك الكثير مما يمكن أن يخسروه في المستقبل. وكذلك الأمر في لبنان.