لم يكن سهلًا الإيقاع برياض سلامة. فضائح من هذا النوع، لم ترتبط فقط بنظام مالي محلّي تحكمه السريّة المصرفيّة، بل بالرجل الذي يملك مفاتيح رفعها، بوصفه رئيسًا لهيئة التحقيق الخاصّة في المصرف المركزي. وحلقة أساسيّة من عمليّات تبييض الأموال المشتبه بها، مرّت بالمصارف التجاريّة المحليّة، التي كانت تخضع تنظيميًا لسلطة الحاكم نفسه. أن تتوقّع خروج قصاصة ورق تدين سلامة، من نظام مالي كهذا، كان ضربًا من الجنون. أمّا في أوروبا، فكانت عمليّات تبييض الأموال تجري تحت ستار من الشركات الوهميّة، المُسجّلة في الجنان الضريبيّة، والتي أتقن سلامة إخفاء أصحاب الحق الاقتصادي فيها.
ومع ذلك، سارت القاطرة منذ العام 2015، وانكشفت في كل حقبة أجزاء من حلقة العمليّات المشبوهة، لتتكامل المعلومات الموجودة بحوزتنا كما تتكامل صور “الأحجية” (puzzle). وبخلاف الاعتقاد الشائع جدًا، وهذه نظريّة سيعترض عليها كثيرون، لم تكن المحاكم والنيابات العامّة الأجنبيّة صاحبة الفضل في كشف الارتكابات الكبرى لسلامة. بل بدأت القصّة بتقارير الصحافة الاستقصائيّة، وفي سياق مشاريع ضخمة أكبر من سلامة ومصرف لبنان، وحتّى لبنان. كانت “مسألة” رياض سلامة مجرّد نتيجة عرضيّة لتلك المشاريع، التي تلقّف لبنانيون معطياتها وبنوا عليها. ثم جاء الضغط الخارجي كعنصر قضائي مكمّل، بعدما فاحت رائحة الرجل وبانت أبرز صفقاته.
من سويس ليكس إلى وثائق بنما والمراسلة السويسريّة
برزت أولى الخيوط التي تقودنا نحو عالم رياض سلامة المالي الخاص عام 2015، في وثائق “سويس ليكس” الشهيرة، التي كشفت قوائم بمئة ألف حساب مصرفي تم فتحها في الفرع السويسري لمصرف HSBC، للاستفادة من نظام السريّة المصرفيّة هناك وإخفاء هويّة مالكيها. في تلك القوائم، ظهر إسم رياض لأوّل مرّة كمالك لشركة مسجّلة في جزر العذراء البريطانيّة، تحمل إسم “نارانوري ليميتد”. ويومها، أثار الحساب ريبة الصحافة الاستقصائيّة، نظرًا لحرص سلامة على إدراج مهنته في سند تسجيل الشركة كمدير مصرف، من دون ذكر موقعه الرسمي، لتفادي إدراجه كشخصيّة عامّة في أي تصنيف لمالكي الشركات.
في تلك التسريبات، ورد أيضًا إسم رجا سلامة، بوصفه المالك المستفيد من شركة “فوري” التي باتت أشهر من نار على علم اليوم. لم يكن إسم “فوري” كفيلًا بإثارة أي شكوك في البداية، بعدما بدا أنّ رصيد حساب الشركة اقتصر على قيمة تناهز 5.8 مليون دولار بين عامي 2006 و2007. لكنّ ما ربط ما بين “نارانوري” و”فوري”، كان إدارتهما من قبل مكتب المحاماة البنمي نفسه، موساك فونسيكا.
ثم جاءت وثائق “بنما” عام 2016، وبعدها وثائق “باندورا” عام 2021، لتكشف الحلقة الأوسع من الشركات الواجهة المسجّلة بأسماء المقرّبين من سلامة، والتي تم استعمالها لاحقًا لتوظيف الأموال الناتجة عن التحويلات من مصرف لبنان. وهذه التسريبات كان ترسم صورة واضحة لكيفيّة استعمال الشركات الواجهة، لإخفاء إسم رياض سلامة كمستفيد نهائي من الأموال التي حطّت في المصارف وأسواق المال والعقارات السويسريّة.
بعد خمس سنوات على تسريبات “سويس ليكس”، ظهرت مراسلة القضاء السويسري عام 2020، التي طلبت تعاونًا مع لبنان في التحقيق بشأن العمولات التي حطّت في حساب شركة “فوري”. ومنذ ذلك الوقت، بدأت تتضح طبيعة العمليّات بشكل مفصّل، بعدما أظهرت التحقيقات الاستقصائيّة نوعيّة الشبكة التي أدارت هذه العمليّات. الجديد الذي قدّمته المراسلة السويسريّة، كان الكشف عن العقد الموقّع بين شركة “فوري” ومصرف لبنان عام 2002، والذي جرى توقيعه مرّة أخرى عام 2015، لتبرير التحويلات التي خرج من مصرف لبنان باتجاه حساب الشركة.
كشف حلقات الاختلاس
لاحقًا، بدأت حلقات الاختلاس وتبييض الأموال تنكشف شيئًا فشيئاً. والدة إبنة رياض سلامة، آنا كوزاكوفا، كانت المالك الإسمي للشركة التي أجّرت “مكتب باريس” لمصرف لبنان، بكلفة هائلة ناهزت نصف مليون دولار سنويًا. لم يكن هناك أي مسوّغ أو حاجة فعليّة للمكتب، ولم يتم تبرير وجوده إلا بعد انكشاف الفضيحة، باجتماعات داخليّة في المصرف المركزي لوضع آليّات لعمل المركز “البديل”. منذ العام 2010، كان مصرف لبنان يهدر أمواله على شقّة لا يحتاجها، بأموال كانت تذهب عمليًّا لمصلحة رياض سلامة نفسه.
سرعان ما غسلت آنا كوزاكوفا يدها من والد إبنتها، رياض. اعترفت في التحقيقات الفرنسيّة أن الأموال التي كانت تُدفع من مصرف لبنان، كانت تذهب لرياض سلامة فعليًا. وأنّ إسمها لم يكن سوى حلقة وسيطة لتبييض الأموال، بعد تحويلها من لبنان. وكجزء من هذه العمليّات، تم تسجيل شركة بإسم “فوري” بإسم كوزاكوفا في قبرص، وهي غير شركة “فوري” الأساسيّة المسجّلة بإسم رجا سلامة.
ثم تبيّن تدريجيًا أن شركة “فوري” كانت مجرّد كيان موجود على الورق، لتلقّي 330 مليون دولار من أموال مصرف لبنان، لقاء ما يزعم العقد أنّه خدمات للوساطة الماليّة. التحقيقات التي أجرتها المحاكم الأوروبيّة، كشفت أن الشركة لم تقم بأي وساطة فعلًا، وأن المصارف اللبنانيّة لم تسمع بإسم شركة “فوري”، التي يُفترض أن تكون الوسيط بينها وبين مصرف لبنان في عمليّات بيع السندات. سجّل سلامة الشركة بإسم شقيقه لفتح الحساب في سويسرا، وتلقّي التحويلات بين عامي 2002 و2015، قبل إقفال الشركة نهائيًا عام 2016. وأموال الشركة، توزّعت لاحقًا على الشركات الأخرى المسجّلة بإسم شركاء سلامة الآخرين في أوروبا.
شيئًا فشيئًا كان الرأي العام يتعرّف إلى ارتكابات أخرى لا تقل فداحة. ظهر إسم شركة “أوبتيموم” بعد تسريب تقرير التدقيق الجنائي الذي قامت به شركة “كرول”، والذي فصّل كيفيّة تقاضي الشركة 8 مليار دولار من العمولات من مصرف لبنان. ببساطة، قرّر سلامة بيع الشركة سندات الخزينة اللبنانيّة، ثم شراءها بأسعار مرتفعة في اللحظة نفسها. وكانت الأموال تُسحب من حساب الشركة في مصرف لبنان إلى جهة مجهولة، من دون أن يتبيّن الهدف من هذه العمليّة المشبوهة. الملفت للنظر، هو أنّ عمليّات “أوبتيموم” انطلقت بعد وقف عمليّات “فوري”، عام 2015، ما يطرح السؤال مجددًا عن غاية تلك العمليّات.
ككرة الثلج، طالت لائحة الفضائح التي طالت إسم سلامة. “آلفاريز آند مرسال” كشفت في تقريرها شكل عمليّات التزوير التي جرت في مصرف لبنان طوال الأعوام التي سبقت الانهيار، والتي أدّت إلى تراكم فجوة الخسائر بصمت. وتحقيقات النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان توسّعت في البحث عن مصير القروض التي منحها رياض سلامة للمصارف بعد العام 2019، والتي يُشتبه باستعمالها لتهريب أموال بعض المودعين النافذين. ثم جاءت تحقيقات إمارة ليختنشتاين لتطال بعض العمليّات التي تزامنت مع الهندسات الماليّة عام 2016، والتي جرت بين سلامة بعض المصرفيين والسياسيين اللبنانيين.
يطول الحديث عن تلك الفضائح، التي انكشفت تدريجيًا منذ العام 2015. لكنّ الأكيد أن “طرف الخيط” في كشف تلك الارتكابات بدأ من تحوّلات في التنظيمات الإداريّة المصرفيّة في أوروبا، التي فرضت تضمين الحسابات أسماء وهويّة صاحب الحق الاقتصادي، بعدما اعتاد أمثال سلامة على الاختباء خلف الشركات الواجهة المسجّلة في الجنان الضريبيّة. ثم جاءت التسريبات والتقارير الاستقصائيّة لتنهل من “داتا” المصارف وأسواق المال الأوروبيّة، وتكشف أسماء الشركات التي أختبأ خلفها سلامة، تمامًا كما كشفت الشبهات المحيطة بسياسيين ومسؤولين في دول أخرى. كانت تلك القوائم الحجر الأساس، الذي انطلقت منها التحقيقات القضائيّة لاحقًا.