في اليوم الأخير من شهر تشرين الأوّل الماضي، قرّر المجلس المركزي لمصرف لبنان تكرار نموذج السحوبات الاستثنائيّة خلال شهر تشرين الثاني، تمامًا كما جرى في بداية تشرين الأوّل. وبهذا الشكل، وللمرّة الثانية منذ توسّع نطاق الحرب، سيمنح مصرف المودعين المستفيدين من التعاميم 158 و166 دفعتين شهريّتين استثنائيّتين خلال الشهر الحالي، إضافةً إلى الدفعة الشهريّة المعتادة، التي تنص تلك عليها تلك التعاميم. وكما جرى الشهر الماضي، من المفترض أن يغطّي مصرف لبنان كلفة الدفعتين الإضافيّتين من الاحتياطات، المودعة من قبل المصارف لديه، على أن تتقاسم المصارف ومصرف لبنان كلفة الدفعة الأولى الاعتياديّة، كما هو الحال دائمًا في مطلع كل شهر.
منذ صدور الخبر، تداولت الأوساط المصرفيّة تكهّنات وترجيحات متعدّدة بخصوص تأثير القرار على احتياطات المصرف المركزي، وإمكانيّة دخول الاحتياطات في مرحلة التآكل من جديد، بعد أن شهدت مسارًا تصاعديًا منذ صيف العام الماضي. واكتسبت هذه الهواجس حساسيّة مضاعفة، بعد عودة التركيز –في الخطابات السياسيّة- على دور الحكومة في الإنفاق على النازحين والحاجات الطارئة الناتجة عن الحرب، وهو ما يعني عمليًا المطالبة بالخروج عن سياسة التقشّف الحادّة المتبعة، والتي سمحت سابقًا بمراكمة الاحتياطات في مصرف لبنان. السؤال الأساسي اليوم: كيف ستكون تداعيات هذه التطوّرات على ميزانيّة مصرف لبنان وسيولة المصرف وحجم احتياطاته؟ واستطرادًا، ما هي الآثار المتوقّعة على السياسة النقديّة والاستقرار القائم اليوم في سوق القطع؟
الآثار على احتياطات مصرف لبنان
حتّى هذه اللحظة، لم ينشر مصرف لبنان بعد الميزانيّة الموقوفة في نهاية الشهر الماضي، والتي يفترض أن تبيّن حجم الاحتياطات وتحوّلاتها خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل. غير أنّ هذه الميزانيّة، التي يفترض أن يتم نشرها في بداية الأسبوع المقبل، لن تعكس فعلًا أثر القرار الأخير المتعلّق بالسحوبات، والذي يفترض أن يدخل حيّز التنفيذ في بداية شهر تشرين الثاني. بهذا الشكل، سيكون على المراقب الانتظار حتّى منتصف شهر تشرين الثاني، لتبيان أثر القرار، الذي سيتم تنفيذه في النصف الأوّل من هذا الشهر. عندها، يمكن للأرقام عن أن تبيّن التداعيات الحقيقيّة.
ومع ذلك، ثمّة ما يمكن الركون إليه لبناء تقديرات أو ترجيحات واقعيّة بهذا الخصوص. فعند تنفيذ القرار السابق، في منتصف شهر تشرين الأوّل، هبطت قيمة احتياطات مصرف لبنان خلال تلك الفترة بنحو 344 مليون دولار أميركي. وهذا المبلغ لم يذهب بكامله طبعًا لتمويل السحوبات، بل اقتصرت الكلفة الفعليّة على نحو 200 مليون دولار أميركي، بينما موّل المصرف المركزي بالقيمة المتبقية رواتب موظفي القطاع العام بالدولار الأميركي. وفي النتيجة، بات حجم الاحتياطات الإجمالي يقارب –في منتصف الشهر- حدود الـ 10.5 مليار دولار أميركي، فيما انخفضت قيمة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بشكل موازي، في دلالة إضافيّة على أثر السحوبات الاستثنائيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ حسابات القطاع العام لدى مصرف لبنان شهدت، خلال الفترة نفسها، انخفاضًا موازيًا بقيمة 60.98 مليون دولار، وهو ما أشّر بدوره إلى الخروج التدريجي من السياسة التقشّفية المتبعة، واضطرار مصرف لبنان لتساهل مع حاجات إنفاق القطاع العام، بخلاف ما كان الحال عليه سابقًا. وهذا المسار يفترض أن يشهد مستقبلًا النمط نفسه، مع تشديد بعض الأطراف الممثّلة في الحكومة –وخصوصًا حزب الله- على ضرورة توسيع نطاق الإنفاق العام في هذه المرحلة.
إذا افترضنا أنّ مصرف لبنان سيضطر إلى تكبّد كلفة مماثلة خلال النصف الأوّل من هذا الشهر، سترتفع الكلفة الإجماليّة للسحوبات ونفقات القطاع العام إلى ما يقارب الـ 690 مليون دولار. وهذا سيشمل طبعًا قيمة السحوبات الاستثنائيّة خلال الشهر الماضي والشهر الحالي معًا، بالإضافة إلى كلفة تسديد رواتب موظفي القطاع العام بالدولار الأميركي. هذه القيمة، ستوازي وحدها 58% من إجمالي الدولارات التي جمعها مصرف لبنان من السوق بين منتصف شهر شباط ونهاية شهر أيلول، والتي انعكست كزيادة في حجم احتياطاته بين الفترتين (مع تأثير محدود جدًا لبعض العوامل الأخرى على قيمة الاحتياطات).
بهذا الشكل، سيكون مصرف لبنان قد تكبّد كلفة معتبرة لقاء تأمين السحوبات وتمويل النفقات الطارئة، غير أنّ هذه الكلفة لن تقضم كليًا الزيادة المُحقّقة في حجم الاحتياطات خلال الأشهر التي سبقت الحرب. أي بعبارة أخرى، سيبقى بحوزة مصرف لبنان احتياطات تفوق حجم الاحتياطات التي كانت موجودة قبل منتصف شهر شباط الماضي.
آليّات زيادة الإنفاق العام
حتّى هذه اللحظة، مازال الحديث عن التوسّع في الإنفاق العام مجرّد نقاش إعلامي. إذ يقيّد هذا الإنفاق حاليًا السقوف التي جرى إقرارها ضمن قانون موازنة العام الحالي، والتي جرى إعدادها بناءً على تقديرات منخفضة جدًا وغير واقعيّة للإيرادات العامّة. وهذا تحديدًا ما سمح للدولة بتكديس الإيرادات الفعليّة والمرتفعة في مصرف لبنان، بدل استخدامها لتمويل الحاجات الطارئة. مع الإشارة إلى أنّ وزارة الماليّة قنّنت كذلك المصادقة على أوامر الصرف، حتّى ضمن سقوف الإنفاق التي جرى إقرارها في الموازنة، وهو ما تكامل مع النهج التقشّفي المتبع.
من الناحية العمليّة، يستلزم التوسّع في الإنفاق العام لتمويل حاجات النزوح الذهاب بأحد خيارين. الخيار الأوّل، هو المصادقة على تعديلات في سقوف الاعتمادات داخل مجلس الوزراء، ومن ثم إحالة هذه التعديلات إلى المجلس النيابي، لتعديل موازنة العام الحالي. كما يفترض أن يتم تعديل مشروع قانون موازنة العام المقبل على الأساس نفسه، للسماح بتمويل النفقات الطارئة والداهمة. أمّا الخيار الثاني، فهو السماح بهذا الإنفاق وفق سلف خزينة، وهذا ما سيحتاج بدوره إلى موافقة المجلس النيابي.
في الحالتين، من المتوقّع أن يكون هذا الملف مصدرًا لخلافات سياسيّة محليّة، إذا دخل حيّز النقاش الجدّي داخل المؤسّسات الدستوريّة، خصوصًا أن طبيعة السياسة الماليّة المتبعة اتصلت أساسًا بمصالح عميقة داخل النظام المالي، بما استهدف مراكمة الاحتياطات على حساب الحاجات التمويليّة للدولة. الخروج عن هذه السياسة، سيكون مسألة إشكاليّة بحد ذاته، فكيف إذا اتصل الإنفاق المطلوب بمسألة النزوح بالذات، والتي يراها البعض –عن سوء تقدير بالغ- كحاجة فئويّة.