انتخاب رئيس يُنعش الأسواق التجاريّة… حركة نشطة رغم فوضى الأسعار

بعد حوالى عامين وشهرين من الفراغ السياسي في سدة رئاسة الجمهورية، شهد لبنان انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، في خطوة بدت وكأنها محاولة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، بعد سنوات من التدهور السياسي والاقتصادي. وبينما تحمل هذه اللحظة رمزية سياسية كبيرة، في مرحلة تعد من الأكثر تعقيداً في تاريخ لبنان الحديث، فإن تأثيراتها لم تقتصر على أروقة السياسة فحسب، بل امتدت لتلامس نبض الحياة اليومية والأسواق التي كانت تعاني شللاً شبه كامل.

بداية جديدة ام رمزية سياسية؟

في ضوء ما تقدم، فان قطاع بيع الألبسة والأحذية، الذي يشكل أحد أعمدة النشاط التجاري في لبنان، بدا أشبه بكائن يُحتضر تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، حيث فقدت المحلات التجارية بريقها، وغابت الحركة عن الأسواق، حتى في أكثر المواسم ازدهاراً كعيدي الميلاد ورأس السنة الماضيين، حيث تحولت إلى مسارح خاوية، والمحال إلى جدران صامتة تنتظر الزبائن بلا جدوى، ما يعكس واقعاً اقتصادياً متدهوراً. وأضحى شراء الملابس والأحذية رفاهية يصعب على المواطن العادي تحملها.

إيجابية مفاجئة في الاقتصاد!

لكن المشهد تبدل فجأة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكأن حبل الحياة قد أُلقي على هذا القطاع. فوفقاً لجولة ميدانية لـ “الديار”، كانت المحلات التجارية تعجّ بالمتسوقين، وحركة المواطنين اشبه “بخلية النحل”، نتيجة الازدحام الشديد والإقبال المتزايد على الشراء. الأحذية الشتوية والجواكيت، التي تراكمت في الشهر المنصرمة كبضائع المنسية على رفوف المحال، شهدت رواجاً ملحوظاً مع عودة الحياة الى طبيعتها.

على مقلب آخر، يعكس هذا الإقبال اللافت جزئياً، الأمل الذي بدأ يدبّ في عروق الاقتصاد مع الاستقرار السياسي النسبي، ولكنه أيضاً يكشف واقعاً آخر يتمثل في رغبة اللبنانيين بالاحتفاء بأي فرصة للهروب من قيود الأزمة، ولو للحظات.

تُظهر هذه التحولات السريعة كيف يمكن لتغير سياسي بسيط أن ينعش قطاعاً بأكمله، لكنه يثير أيضاً تساؤلات عميقة حول هشاشة هذا الاقتصاد، الذي يتأرجح كطائر يتنقل بين قفص الأزمات وأمل الانطلاق في فضاء أوسع. في المقابل، يؤكد نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين، “ان مضمون خطاب القسم لرئيس الجمهورية قد أحدث صدمة إيجابية دولية وعربية”.

احتشاد غير مسبوق وتفاؤل كبير!

بالرغم من النشاط الذي عاد إلى الأسواق، والذي يحمل في طياته بارقة أمل لدى الناس عقب انتخاب رئيس للبلاد، فإن هذه الحركة ليست خالية من التحديات. وقد سلطت “الديار” الضوء على مفارقة كبيرة كشفتها خلال جولتها الميدانية، حيث رصدت تفاوتاً صادماً في أسعار المنتجات، لا سيما الأحذية.

وقد أظهر تقصّي “الديار” أن هذا التباين الكبير يطرح علامات استفهام حول آليات التسعير وفوضى السوق. على سبيل المثال، في أحد المحال التجارية كان سعر الحذاء يبلغ 50 دولاراً، بينما في المحل المجاور، وهو ضمن السوق ذاته، تراوح سعره بين 25 و30 دولاراً. وعندما سألت “الديار” موظف في محل (Step 4 U) في منطقة الدورة عن تفسير هذا الفرق، جاء الرد مثيراً للدهشة: “نوعية مختلفة”! ، رغم أن المنتج يحمل العلامة التجارية نفسها ويبدو طبق الأصل في كل تفاصيله.

ما تفسير التمايز في الأسعار؟ يجيب أستاذ اقتصاد في الجامعة اللبنانية موضحا انه “اقتصادياً، هذا الاختلاف الكبير يعكس غياب الرقابة الفعّالة على الأسعار، ويشير إلى أزمة ثقة بين المستهلك والتاجر. ففي ظل انهيار العملة الوطنية وغياب السياسات الواضحة، باتت الأسواق مفتوحة على مصراعيها أمام اجتهادات التجار، حيث يُصبح التسعير لعبة يحددها التاجر وفقاً لتقديره الشخصي أو حسب استغلال قدرة المستهلك الشرائية”.

واكد ان هذه الفوضى مرتبطة أيضاً بفقدان الشفافية، حيث يستخدم بعض التجار حججاً واهية مثل “اختلاف النوعية” لتبرير الأسعار المرتفعة، في حين أن الهدف الحقيقي قد يكون تحقيق أرباح مضاعفة”.

ويقول لـ “الديار”: “من ناحية أخرى، يعكس هذا التفاوت استغلالاً لحالة الطلب المتزايد، التي ترافق فترة التعافي السياسي بعد انتخاب رئيس للجمهورية وبدء الاستشارات النيابية، لتشكيل حكومة بعد تسمية القاضي نواف سلام لترؤسها، حيث يستفيد التجار من هذا التبدل المحلي لتعويض خسائرهم في فترات الركود”.

ويؤكد “ان هذه الفوضى التسعيرية تُضعف القدرة الشرائية للأفراد وتزيد من إحباطهم، إذ يجد المواطن نفسه محاصراً بين تلبية احتياجاته الأساسية والوقوع في فخ الأسعار غير المنطقية. وعلى الرغم من الحركة “التي فيها بركة”، فإن التلاعب الصارخ في الأسعار يُظهر أن طريق التعافي الاقتصادي لا يزال طويلاً وشائكاً، ويحتاج إلى إصلاحات جذرية تضمن العدالة والشفافية في السوق، وتحمي المستهلك من أي انتهاز لتحقيق أرباح غير مبررة”.

القطاع السياحي والصناعي:

أرقام مؤلمة وعواقب وخيمة

ويتابع الأستاذ الجامعي المتخصص في المجال الاقتصادي ومتابعة الأسواق، “شهدت القطاعات الاقتصادية في لبنان خلال العام 2024 خسائر فادحة، تسببت بتداعيات عميقة على الأسواق المحلية، في ظل أزمات اقتصادية خانقة زادت من حدتها الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة والأوضاع السياسية المتأزمة. القطاع السياحي، الذي يُعد ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، تكبد خسائر تُقدر بنحو 4 مليارات دولار، وهو رقم يعيد إلى الأذهان حجم الخسائر التي تعرض لها خلال حرب تموز عام 2006. أما القطاع الصناعي، فقد خسر ما يقارب ملياري دولار نتيجة تعطل الإنتاج والتصدير”.

ويشير الى ان “القطاع الزراعي لم يكن أفضل حالًا، حيث تضرر بنسبة 70%، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإنتاجية وزيادة الأعباء على المزارعين. كذلك، تراجع النشاط الاقتصادي العام بنسبة تصل إلى 90%، باستثناء بعض القطاعات الحيوية مثل المواد الغذائية التي بقيت تعمل بشكل جزئي”. ويؤكد ان هذه الخسائر اثرت بشكل مباشر في الأسواق المحلية، وخاصة قطاع بيع الألبسة والأحذية، الذي يُعد مؤشراً واضحاً على الوضع الاقتصادي. فقد شهدت المحلات التجارية حركة شرائية متفاوتة بعد انتخاب رئيس الجمهورية، إلا أن التزوير في التسعير بين المحلات أدى إلى إثارة تساؤلات حول غياب الرقابة والتنظيم”.

ويؤكد ان “هذا التمايز يبين بوضوح حالة الفوضى التي تعم الأسواق اللبنانية، حيث يسعى التجار لتعويض خسائرهم على حساب المواطنين، في ظل غياب شبه كامل للرقابة الفعّالة. وعلى الرغم من أن انتخاب رئيس الجمهورية جلب بعض الآمال بتحسن الوضع، إلا أن الأزمات العميقة في القطاعات الاقتصادية تشير إلى أن الطريق نحو التعافي ما زال معقداً، ويتطلب جهوداً استثنائية لإعادة تنظيم السوق وتحقيق الاستقرار الاقتصادي”.

الصعوبات متشعّبة والطموحات كبيرة

ويكشف ان “التحديات التي يواجهها هذا القطاع لا تقف عند حدود التحريف السعري، بل تمتد لتشمل ضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، نتيجة التضخم وتآكل المداخيل. هذا الواقع جعل من الأسواق التجارية ساحة صراع يومي بين التجار من جهة، والمستهلكين الذين يبحثون عن أفضل الأسعار وسط ظروف معيشية صعبة من جانب آخر”.

ويختم “في ظل هذا الوضع، تبدو الحاجة مُلحّة لتفعيل دور النقابات المعنية والدولة كمنظم للسوق وحامٍ للمستهلك. كما أن الحلول لا تقتصر فقط على التدخلات الرقابية، بل يجب أن تشمل تعزيز الإنتاج المحلي، توفير الدعم للقطاعات المتضررة من العدوان “الاسرائيلي” والأزمات النقدية المتتالية منذ نحو خمس سنوات، والعمل على بناء ثقة المواطن بالدولة. من جهة أخرى، أصبح واضحاً أن إعادة الزخم للأسواق المحلية يتطلب خطة إنقاذ اقتصادية متكاملة تشمل تحفيز السياحة، دعم الصناعات الوطنية، واستعادة الإنتاج الزراعي، بالإضافة الى اتخاذ إجراءات فورية لضبط السوق ومنع الاستغلال والتهريب عبر الحدود ايضا. وإلا، فإن ما شهده قطاع الألبسة والأحذية من تفاوت سعري قد يصبح نموذجاً ينسحب على مختلف القطاعات، مما يعمق الأزمة ويفاقم من معاناة اللبنانيين”.

مصدرالديار - ندى عبد الرزاق
المادة السابقةالذهب يرتفع مع تراجع الدولار وعوائد السندات
المقالة القادمةهل تخرق جمعية المصارف العُرف برئيس غير ماروني؟