7 أولويّات تغيّر وجه لبنان الاقتصاديّ

ليس لبنان أمام خيار بين المحاور الإقليمية في عهد الرئيس جوزف عون، بل هو أمام خيار بين نمطَيْ تفكير في اقتصاده، ودوره في الإقليم، وما تعنيه الهويّة اللبنانية لأبنائها. إذا كان من سمة أساسية لإيران في عهد الثورة الخمينية، فهي أنّ لديها مشروعاً عقائديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً في المنطقة، لكنّها لا تملك مشروعاً اقتصادياً، ولا تقدّم نفسها نموذجاً في هذا الميدان.

على النقيض، يعدّ المشروع الاقتصادي، مركز السياسات في السعودية، خصوصاً منذ أن أطلق وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2016 “رؤية 2030” التي ارتكزت على ثلاثة مكامن قوّة للمملكة: العمق العربي والإسلامي، القوّة الاستثمارية والموقع الاستراتيجي بين ثلاث قارّات. وتمّت ترجمتها بثلاثة محاور هي: بناء مجتمع حيويّ واقتصاد مزدهر ووطن طموح. وعلى هذا الأساس يمكن فهم التحوّلات الكبرى التي تشهدها السعودية في اقتصادها وثقلها في العلاقات الدولية ودورها في محيطها.

بالروحيّة نفسها، صاغت الإمارات استراتيجيات خوّلتها خلال عقود قليلة التحوّل إلى قوّة اقتصادية عالمية، تتفوّق على لندن كمركز للطيران، وتنافس إسرائيل كمركز عالمي للاستثمار في الذكاء الاصطناعي وصناعة الفضاء.

نمط رفيق الحريري… أو ما بعده

أمام لبنان خيارٌ اليوم بين نمط تفكير رفيق الحريري، وبين ما أتى بعده في عقدين مظلمين من الهيمنة الإيرانية. في هذين العقدين هاجرت نخبة القوّة البشرية إلى اقتصادات توفّر لها الفرص للنموّ وتأسيس الأعمال وإطلاق الشركات الناشئة. وانتقلت بعضٌ من أنجح الأعمال من بيروت إلى مدن الخليج، حيث وجدت البيئة الملائمة للنموّ والتوسّع، فيما كانت عناصر القوّة الاقتصادية والثقافية اللبنانية تضمحل شيئاً فشيئاً. تراجعت سمعة البلد في التعليم الجامعي والاستشفاء والخدمات العامّة والبنية التحتية وكفاءة المؤسّسات، وصار أيّ استقرارٍ ليس إلّا وقتاً مستقطعاً بين أزمتين.

بإمكان عهد جوزف عون أن يحدث فرقاً بأن يجعل الاقتصاد في مركز التفكير والتداول العامّ. وهذه هي وظيفة الاستراتيجيات الوطنية: أن تضع أمام المواطنين أهدافاً محدّدة مرتبطة بجداول زمنية، ويمكن أن تتحوّل إلى مادّة للحدّ من الاختلافات الأهلية ذات الطابع الطائفي أو المناطقي.

دراسة “ماكينزي” آخر المحاولات

كانت آخر محاولة من هذا النوع الدراسة التي وضعتها “ماكينزي” بتكليف من مجلس الوزراء عام 2017، بعد مؤتمر “سيدر”. وكان من المفترض أن يكون نطاقها الزمني لخمس سنوات حتّى عام 2025. قدّمت تلك الدراسة إضافة جيّدة في تحليل النموذج الاقتصادي اللبناني وتحليل مكامن قوّته وضعفه.

حدّدت هدفاً أساسياً يتمثّل بتحقيق نموّ يراوح بين 5% و6% سنويّاً، ليصل حجم الاقتصاد إلى 80 مليار دولار (ما حدث بالفعل أنّ الاقتصاد تقلّص إلى ربع هذا الرقم). وأوصت بالتركيز على خمسة قطاعات رئيسية، هي الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات المالية واقتصاد المعرفة، بالإضافة إلى المورد الأساسي المتمثّل بأموال المغتربين.

لبنان

اختلفت الأوضاع الاقتصادية والمالية والإقليمية جذرياً منذ تلك الدراسة. فالبلاد اليوم بلا قطاع ماليّ (كان يساهم مع التأمين بتسعة في المئة من الناتج المحلّي)، وفي حالة اهتراء كامل للبنية التحتية، وفي دمار رهيب نتيجة العدوان الإسرائيلي. وفوق ذلك، باتت الفجوة كبيرة بين لبنان ومدن الخليج في السياحة والخدمات والترفيه. بل إنّ خرّيجي الجامعة اللبنانية والكثير من الجامعات الخاصة باتوا يجدون صعوبة كبيرة في دخول سوق العمل الخليجي، في ظلّ تطوّر التعليم العامّ والخاصّ في دول المنطقة، وتفوّق مخرجاتها على مخرجات الجامعات اللبنانية.

لذلك لا بدّ للبنان من البحث عن دور واقعي جديد في المنطقة، بالتوازي مع العمل على ترميم قطاعاته الإنتاجية وعناصر تنافسيّته التقليدية.

سبع أولويّات

يمكن الحديث هنا عن سبع أولويّات اقتصادية داهمة، من وحي التحدّيات الداخلية والتغيّرات الكبرى في المنطقة:

1- القطاع اللّوجستيّ

ربّما الفرصة الكبرى للبنان في السنوات العشر المقبلة تكمن في تغيّر النظام الاقتصادي في سوريا، من نظام اشتراكي مغلق مع جناح كبير من التهريب واقتصاد الظلّ إلى اقتصاد حرّ يفتح أبواب الاستيراد. وفي ظلّ الحاجات الكبيرة لإعادة الإعمار، تكمن الفرصة الكبرى أمام مرفأ بيروت أن يثبت نفسه نافذةً لوجستية دائمة لسوريا، وامتداداً إلى العراق. وكذلك الأمر أمام مرفأ طرابلس ليكون النافذة اللوجستية لوسط سوريا.

كانت تلك هي القيمة الاقتصادية التي قام على أساسها مشروع الفرنسيين لتطوير مرفأ بيروت وبناء خطوط سكك الحديد أواخر القرن التاسع عشر، قبل سقوط الدولة العثمانية.

ثمّة مشاريع كبرى في المنطقة اليوم تقوم على الربط البحري والبرّي بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وباتت خطوط القطارات تصل الدمّام بالقريات على الحدود السعودية الأردنية. فيما جهّزت إسرائيل خطّ القطار بين مرفأ حيفا وبيسان على الحدود الأردنية، وبدأت تشغيله فعليّاً قبل خمس سنوات بانتظار الفرصة لربط مينائها بدول المنطقة. وأمّا تركيا فتعمل على خطّ آخر يربط العراق من جنوبه إلى شماله، بأوروبا، ليتكامل مع خطّ بحريّ يربط البصرة بموانئ الإمارات وقطر.

لذلك ليس أمام لبنان خيار إلا أن يجهّز نفسه للمنافسة سريعاً، وإلّا فسيخسر فرصة الاستفادة من موقعه. يتطلّب الأمر ليس فقط رفع جهوزيّة المرفأ، بل تطوير خطوط النقل إلى البقاع. ولا بدّ من العمل سريعاً على مشروع استراتيجي لإعادة بناء خطّ قطار للشحن، وإقامة ميناء جاف في البقاع، إمّا في تعنايل وإمّا في رياق، ليكون محطّة تخليص للبضائع وإعادة التصدير إلى سوريا والعراق. وقد يكون من المجدي تلزيم مشروع BOT للقطاع الخاصّ لشقّ نفق عبر السلسة الغربية لاختصار الوقت والمسافة، على نحو الأنفاق التي تقطع جبال الألب في سويسرا.

2- قطاع الطّاقة

من الصعب أن يصدّق العقل أنّ المياه اللبنانية لا تخفي تحتها حقولاً من الغاز بكمّيات تجارية. لكن ما بات واضحاً أنّ التنقيب والاستخراج هما مشروع سياسي بقدر ما هما مشروع اقتصادي. والغاز على وجه الخصوص لا يمكن استثماره أو تصديره من دون تعاون إقليمي. وثمّة خيارات دقيقة في هذا المجال. فلبنان مربوط بالفعل بشبكة خطّ الغاز العربي التي تمتدّ من مصر إلى الأردن فسوريا. وقد تدفّق الغاز المصري فعلاً عبر هذا الخطّ إلى دير عمار في الفترة بين 2009 و2010. إلّا أنّ تضاؤل كمّيات الإنتاج لدى مصر أدّى إلى توقّف التصدير.

المهمّ في هذا الخطّ أنّه يحتاج إلى وصلة أخيرة بين حمص وحلب ليصبح متّصلاً بالشبكة التركية المتطوّرة جدّاً، والتي يصل من خلالها الغاز الروسي والأذربيجاني إلى وسط أوروبا وجنوبها (الوصلة بين حلب وتركيا منجزة بالفعل).

الجدير بالذكر أنّ إسرائيل تصدّر كلّ ما يفيض عنها من الغاز إلى الأردن ومصر عبر الأنابيب، وهي مقبلة على مضاعفة الإنتاج من حقل ليفيثان مقابل حيفا. وقامت مصر في فترات سابقة بتصدير جزء من هذا الغاز إلى أوروبا بعد تسييله في محطّتي إدكو ودمياط. وحاولت تركيا الدخول على خطّ التعاون مع إسرائيل، وجرى اتّصال بين وزيرَي الطاقة في البلدين قبل أسابيع قليلة من 7 أكتوبر 2023، وكان من المفترض أن تتبعه زيارة للوزير التركي لتل أبيب من أجل البحث في مشاريع مشتركة من ضمنها تطوير حقل “غزة مارين” قبالة شواطئ غزة.

لذلك تطوير حقول الغاز وربط لبنان بشبكة الغاز الإقليمية لا بدّ أن يكونا أولويّة في صناعة السياسات في المرحلة المقبلة.

3- الكهرباء: معالجة تنظيميّة

عانى قطاع الكهرباء لعقود طويلة بلا سبب مقنع. والمقاربة الفضلى لحلّ أزمته أن تخرج الدولة من إنتاج الكهرباء، وتتحوّل إلى جهة ناظمة. وأوّل ما يجب فعله إلى جانب تفعيل الهيئة الناظمة، تفكيك مؤسّسة كهرباء لبنان، وتوزيعها على ثلاث شركات: شركة تملك شبكة خطوط النقل، وشركة (أو أكثر) لمرافق الإنتاج، وشركة للتوزيع على غرار “كهرباء زحلة” و”كهرباء قاديشا”، مع فتح الباب أمام القطاع الخاصّ لإنشاء معامله، من دون أن تنفق الدولة قرشاً واحداً على ذلك.

إلى جانب ذلك، تؤسّس الدولة شركة لشراء الطاقة تتولّى شراء إنتاج كل من ينتج الكهرباء على الأراضي اللبنانية، وتضعه على الشبكة، فيتمّ خلال سنة واحدة إغلاق دكاكين الموتورات وشبكات التوزيع والجباية الخاصّة بها إلى غير رجعة، على أن يتمّ إنشاء إطار تنظيمي لمقاصّة كمّيات الكهرباء التي ينتجها المواطنون في بيوتهم عبر ألواح الطاقة الشمسية أو مراوح لطاقة الرياح.

على أنّ أولوية الدولة يجب أن تتركّز على الاستثمار في تطوير شبكة النقل وربطها بالدول المجاورة، لأنّ المشروع الحيوي المقبل سيكون ربط شبكات الكهرباء في الخليج بأوروبا، عبر مصر، وربّما عبر سوريا وتركيا لاحقاً، لتشتري أوروبا الكهرباء النظيفة التي سيتمّ إنتاجها من المشاريع الضخمة للطاقة المتجدّدة في شمال السعودية.

4- إعادة الإعمار

ثمّة اعتقاد لدى الناس أنّ المساعدات الخارجية ستعيد بناء ما تهدّم خلال العدوان الإسرائيلي بالكامل، ربّما استناداً إلى تجربة حرب 2006. وإذا كان رئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام قد أكّد ذلك “وعداً والتزاماً”، فإنّ من الصعب جدّاً أن تغطّي المساعدات الخارجية تكاليف التعويضات بالكامل، خصوصاً في ظلّ تنافس استحقاقات إعادة الإعمار المتزامنة في المنطقة، من غزة إلى سوريا، وربّما السودان واليمن. ولذلك لا بدّ من مصارحة الناس بأنّ هناك ثمناً لا بدّ أن يتحمّله دافعو الضرائب.

إذا كانت إسرائيل، باقتصادها الذي يزيد حجمه على نصف تريليون دولار وما يتدفّق عليها من مساعدات أميركية، قد اضطرّت إلى إجراءات تقشّفية من ضمنها رفع الضريبة على القيمة المضافة من 17% إلى 18%، فإنّ الحكم في لبنان يحتاج إلى مصارحة الناس بأنّ البحبوحة ليست خلف الأبواب، ولا بدّ من التعامل بجدّية مع الاستحقاقات المقبلة، ومقاربتها بمبدأ أساسي هو العدالة في توزيع الأعباء.

5- إعادة الودائع

يرث العهد هذا الاستحقاق الهائل من فترة مظلمة، والمشترك بينه وبين إعادة الإعمار أنّ موارد الدولة قليلة والانتظارات كبيرة والمصارحة صعبة. فقد ثارت الثائرة على حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري حين تحدّث عن “تقبّل المودعين للخسارة”، وهو ما نفاه لاحقاً. لكن حتى الآن ليس هناك أيّ طرحٍ لإعادة الودائع سوى الشعارات.

لذلك سيكون على حكومة العهد الأولى أن تحسم الأمر: ما الذي سيتحمّله المودعون من خسائر؟ وما الثمن الذي ينبغي أن يتحمّله دافعو الضرائب، باعتبار أنّهم استفادوا من استخدام الدولة لأموال المودعين في إنفاقها الجاري وفي فسادها؟

حان وقت الحسم، فمن دون ذلك لا يمكن أن تتمّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي ويعود الانتظام إلى ماليّة الدولة والنظام المالي.

6- استعادة الماليّة العامّة

هناك وهمٌ بأنّ المالية العامّة تحقّق فائضاً. والحقيقة أنّه فائضٌ أوّلي في ظرفٍ غير طبيعي، ولا يأخذ في الاعتبار التكاليف الإضافية في حال تطبيع تكاليف التمويل التي توقّفت الدولة عن سدادها منذ آذار 2020، ولا تكاليف تطبيع المصاريف الجارية، خصوصاً في بند الرواتب والأجور، علاوة على حاجات التوظيف الكبيرة التي تنتظر القطاع العامّ في السلكين العسكري والمدني، وفي وظائف الفئة الأولى. ولذلك لا يمكن الركون إلى وجود فائض في هذا الوضع غير الطبيعي.

لكي تستعيد الماليّة العامّة انتظامها لا بدّ من الشروع في التفاوض مع الدائنين من حاملي اليوروبوندز وحسم مسألة ديون الدولة تجاه مصرف لبنان، لتتمكّن الدولة من العودة إلى أسواق رأس المال.

7- استعادة الانتظام في القطاع الماليّ

حقّق مصرف لبنان في العامين الأخيرين منجزاً مشهوداً باستعادة استقرار سعر الصرف. إلّا أنّ الاستمرار في المعادلة القائمة حالياً غير ممكن، لأنّ الأداة النقدية الوحيدة المتاحة لمصرف لبنان حالياً هي التحكّم بالكتلة النقدية، وليس حتى بمعروض النقد بالمفهومين الواسع والضيّق. ولذلك يُتّهم البنك المركزي، بغير وجه حقّ، بمنع الدولة من إنفاق الأموال التي تجبيها من الضرائب والرسوم.

لا بدّ للانتظام أن يعود ليستعيد مصرف لبنان أبسط الأدوات الأخرى، مثل سعر الفائدة وسوق أذونات الخزينة، ليعود إلى إدارة السيولة في النظام المالي كأيّ بنك مركزي في بلد طبيعي. وهذا لن يتحقّق إلّا بإعادة الانتظام إلى المالية العامّة.

إقرأ أيضاً: لكي لا تتحوّل الفوائد العالية على الليرة… إلى نقمة

تلك العناوين السبعة لا تحلّ مكان أيّ أولوية أخرى ترتبط بالقطاعات التقليدية، من صناعة وزراعة وسياحة واتّصالات. إلّا أنّ التركيز عليها ينبع من كونها مرتبطة بمتغيّرات إقليمية ودولية أو استحقاقات داهمة. والأكيد أنّ مواجهتها تتطلّب الكثير من الشجاعة والحديث بلغة المصالح، بدلاً من لغة المحاور والاستقطابات التي جرّت لبنان إلى ما هو فيه.

مصدرأساس ميديا - عبادة اللدن
المادة السابقةالزعنّي وبو نادر يتوافقان على بقاء الصناعات الغذائية في الطليعة
المقالة القادمةلكي لا تتحوّل الفوائد العالية على الليرة… إلى نقمة