أثار إصدار رئيس الولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، أمراً رئاسياً تنفيذياً يقضي بـ«تعليق تمويل كل المشاريع المموّلة من وكالة التنمية الأميركية»، المعروفة بـ«USAID»، بلبلة واسة بين المنظمات غير الحكومية في لبنان، ولا سيما تلك المموّلة من «USAID». بحسب السفارة الأميركية في بيروت، إن الـ«USAID» أنفقت في لبنان منذ 2023 نحو 123 مليون دولار. لكن رغم اقتصار الأمر التنفيذي، إلا أن القلق أثير لدى المنظمات غير الحكومية العاملة في لبنان والتي تحصل على تمويل حكومي من الولايات المتحدة، فالحكومة الأميركية مسؤولة بشكل مباشر عن 22% من مجمل تمويل أنشطة هذه المنظمات التي تلقّت في عام 2024 نحو 293 مليون دولار، فضلاً عن أن الحكومة الأميركية شاركت في تمويل «الاستجابة السريعة» في إطار المنظمات الدولية العاملة في لبنان، بمبلغ 128 مليون دولار يمثّل 40.1% من مجمل ما وصل إلى لبنان من الدول والمنظمات. وسواء كانت المنظمات مموّلة من الـ«USAID» أو أيّ تمويل حكومي آخر، تسرّب القلق إليها وباشرت بعملية «قصّ» تشمل الموظفين والمشاريع.
بموجب القرار الأميركي التنفيذي، سيعُلّق تمويل مشاريع وكالة المعونة الأميركية لمدة 3 أشهر إلى حين «إتمام عملية إعادة التقييم»، إذ لا بدّ من التأكد من «فعالية المساعدات، واتّساقها مع السياسة الأميركية الجديدة تحت شعار أميركا أولاً»، كما أعلنت إدارة ترامب. لكن المنظمات العاملة في لبنان، والتي يكاد تأثيرها في صانع القرار يكون منعدم الوجود، تقول إن «وقف المشاريع سيؤدي إلى وقف الخدمات، والناس ستتأثر، ما سيؤدي حكماً إلى الاعتراض». فالقرار الذي طاول بشكل أساسي منظمة الـ«USAID» هو «أمر كبير» لن تقتصر تأثيراته على المنظمات غير الحكومية، بل سيطاول كل المتعهدين والعاملين والمشاريع المموّلة من الحكومة الأميركية مباشرةً، أو عبر «USAID.
فالتمويل الذي طلبت الـ«USAID» تخصيصه لملف المساعدات الإنسانية في لبنان لعام 2025 بقيمة 72 مليوناً و245 ألف دولار سيعلّق ربطاً بقرار ترامب التنفيذي، إذ سيؤدي إلى خفض أو وقف أنشطة منظمة برنامج الغذاء العالمي في لبنان التي خُصّص لها عبر الـ«USAID» نحو 45 مليون دولار، أي 62.2% من المبلغ الذي تطلبه لتمويل برامج برنامج الغذاء العالمي في لبنان، فيما كانت ستحصل 8 وكالات دولية على باقي المبلغ البالغ 27 مليون دولار. من بين هذه الوكالات الدولية، كانت منظمة الهجرة العالمية المسؤولة عن تأمين الإيواء للنازحين ستحصل على 12 مليون دولار، ومنظمة الصحة العالمية المسؤولة عن برامج كبيرة مشتركة مع وزارة الصحة ستحصل على 3.5 ملايين دولار.
إزاء ما يحصل، قرّرت إدارات المنظمات غير الحكومية العاملة في لبنان، سواء كانت مموّلة من الـ«USAID» أو من تمويل حكومي آخر، التعامل مع الشحّ المالي المرتقب لفترة ثلاثة أشهر على الأقل، مع احتمالات اقتطاع قسم كبير من تمويلها، من خلال صرف الموظفين وإيقاف المشاريع. عمليات الصرف بدأت تشمل أعداداً كبيرة من فئة «المتعاقدين الصغار» الذين يعملون على المشروع، ولا تزيد رواتبهم على 400 دولار شهرياً، بالإضافة إلى «قصّ» بعض الرؤوس الأكبر التي تتقاضى رواتب كبيرة ويمكن الاستغناء عن خدماتها. وبحسب عاملين في إحدى المنظمات الدولية، فإن الإدارة عمدت إلى وقف مشاريعها للأسبوع الماضي، بينما يقول المصروفون من العمل إنّ «عملية الصرف طاولت أيضاً عدداً من منسّقي العمليات على الأرض، المعروفين بالـ officers»، والذين تزيد رواتبهم على ألف دولار شهرياً.
أيضاً، أدّى قرار ترامب إلى تداعيات على صعيد المنظمات الأممية. وبحسب إحدى المنظمات التي باشرت بإعداد مسح واسع لمعرفة عدد المنظمات الحكومية المحلية التي ستتأثر بإيقاف التمويل، تبيّن، وفقاً لنتائج أولية، أنّ عدداً من المنظمات أوقفت خدماتها للسوريين والفلسطينيين واللبنانيين. فعلى سبيل المثال، ستنقطع المعونة النقدية المقدمة من برنامج الغذاء العالمي عن 570 ألف سوري في لبنان، وستتوقف المعونة العينية، أو «الإعاشة»، عن 170 ألف لبناني. وبحسب مصادر «الأخبار»، ستتأثر بشدة قطاعات المياه والصرف الصحي والتعليم والغذاء، فالولايات المتحدة الأميركية هي أكبر مموّل لخطة الاستجابة للبنان.
في الوزارات اللبنانية، حيث «تعشّش المنظمات غير الحكومية»، بدأت مظاهر الانهيار بالظهور. ففي وزارة الداخلية، تعطّل عمل المشاريع المشتركة للبلديات مع «USAID»، وقطعت المبالغ الإضافية التي تدفع لعدد من الموظفين في الوزارة مقابل متابعة ملفات خاصة بالمنظمات الدولية. وفي وزارة التربية، توقفت المشاريع المشتركة مع «USAID»، علماً أنّها مسؤولة عن عدد كبير من مشاريع تجهيز المدارس في المناطق، سواء على مستوى الطاقة أو التجهيزات المدرسية التربوية.
استثناء مصر وإسرائيل
تظهر الإحصاءات على صعيد توزّع المساعدات التي تقدّمها وكالة التنمية الأميركية حول العالم، أن الكيان الإسرائيلي هو، تاريخياً، المتلقّي الأكبر للمساعدات، إذ بلغت قيمتها بين عامي 1946 و2022 نحو 317.9 مليار دولار (معدّلة وفقاً لمعدّلات التضخّم)، أما ثاني أكبر بلد يتلقّى المساعدات المالية من الوكالة فهو فييتنام بمبلغ 184.5 مليار دولار، وفي المركز الثالث تأتي مصر التي تلقّت نحو 182 مليار دولار في الفترة نفسها. المثير للاهتمام هو أن الكيان الإسرائيلي ومصر هما الاستثناءان الوحيدان اللذان جرى استثناؤهما من قرار ترامب القاضي بتعليق تمويل الوكالة. ومن ناحية القارات، تتلقّى آسيا أكبر حجم من مساعدات وكالة التنمية الأميركية، بقيمة 20 مليار دولار سنوياً، تليها أفريقيا التي تتلقّى نحو 14 مليار دولار سنوياً. في المقابل تتلقّى أميركا الجنوبية نحو مليار دولار سنوياً فقط. وهذا يعبّر عن مدى اهتمام الولايات المتحدة بهذه المناطق من الناحية الاستراتيجية، إذ تُغرق المناطق التي تهتم بها بتوسيع نفوذها فيها.
القطاعات المنتجة غير مهمّة
كان لافتاً أن يكون قطاع «الحوكمة» هو الأكثر تلقّياً للمساعدة من وكالة التنمية الأميركية بمبلغ 16.8 مليار دولار سنوياً. فـ«الحوكمة» هي أحد الأبواب التي تحاول الولايات المتحدة الدخول عبرها لتوجيه الاقتصادات العالمية نحو النيوليبرالية. وهو باب يسهّل هذه العملية، إذ إنه تحت هذا العنوان تستطيع الولايات المتحدة التأثير في آليات الحكم. يشير مصطلح «الحوكمة» إلى الأنظمة والعمليات والمؤسسات التي تُمارَس من خلالها السلطة وتُتخذ القرارات في المجتمع. وهي تشمل الهياكل الرسمية مثل الحكومات والأطر القانونية والإدارة العامة، فضلاً عن الآليات غير الرسمية مثل مشاركة المجتمع المدني والمعايير الثقافية. وفي مقابل «الحوكمة» تذهب 10.45 مليارات دولار سنوياً إلى المساعدات الإنسانية. أما القطاعات المنتجة مثل الزراعة والبنى التحتية والتعليم فتحظى، مجتمعة، بنحو 3.1 مليارات دولار سنوياً، وهو ما يشير إلى عدم اهتمام الولايات المتحدة بدعم البلدان لتصبح اقتصاداتها أكثر صلابة واستدامة، بل تتوجّه نحو الدعم العيني (ما يُسمّى الإنساني) الذي يضع البلدان تحت رحمة هذه المساعدات.
9.71 مليارات دولار
كان لافتاً أن يكون قطاع «الحوكمة» هو الأكثر تلقّياً للمساعدة من وكالة التنمية الأميركية بمبلغ 16.8 مليار دولار سنوياً. فـ«الحوكمة» هي أحد الأبواب التي تحاول الولايات المتحدة الدخول عبرها لتوجيه الاقتصادات العالمية نحو النيوليبرالية. وهو باب يسهّل هذه العملية، إذ إنه تحت هذا العنوان تستطيع الولايات المتحدة التأثير في آليات الحكم. يشير مصطلح «الحوكمة» إلى الأنظمة والعمليات والمؤسسات التي تُمارَس من خلالها السلطة وتُتخذ القرارات في المجتمع. وهي تشمل الهياكل الرسمية مثل الحكومات والأطر القانونية والإدارة العامة، فضلاً عن الآليات غير الرسمية مثل مشاركة المجتمع المدني والمعايير الثقافية. وفي مقابل «الحوكمة» تذهب 10.45 مليارات دولار سنوياً إلى المساعدات الإنسانية. أما القطاعات المنتجة مثل الزراعة والبنى التحتية والتعليم فتحظى، مجتمعة، بنحو 3.1 مليارات دولار سنوياً، وهو ما يشير إلى عدم اهتمام الولايات المتحدة بدعم البلدان لتصبح اقتصاداتها أكثر صلابة واستدامة، بل تتوجّه نحو الدعم العيني (ما يُسمّى الإنساني) الذي يضع البلدان تحت رحمة هذه المساعدات.