حزب الصندوق وحزب المصرف على طاولة الحكم | حكومة الاختصاصات: هل يكفي ذلك لإدارة شؤون المجتمع؟

صحيح أن حكومة العهد الأولى «غير شكل» إلا أنها مثقلة باختلال توازن القوى الذي شهده لبنان في العقود الأخيرة.

وفيها من الوجوه الجديدة، ما أثار الكثير من التفاؤل، لولا بعض العلامات الفارقة التي من أبرزها الجمع بين طرفي ما يمكن تسميته بـ «حزب الصندوق» و«حزب المصرف»، إلى جانب كونها تجمع بين استشاريين عملوا في شركة «بوز ألن» في مرحلة ما من حياتهم وإن انضوى بعضهم بشكل رسمي أو بشكل غير مباشر في «كلنا إرادة»، وبين أصحاب الأعمال التقليديين الذين مارسوا «البزنس» من إحدى قنوات «الزعامة» السياسية في لبنان.

الغالبية لديها جنسيات أجنبية وخريجي جامعات غربية، لكنهم يفقترون إلى الحسّ السياسي في واحدة من أصعب المراحل الانتقالية التي يشهدها لبنان بين نتائج التفليسة في 2019 ونتائج العدوان الصهيوني في 2024.

بحسب سجّلات الموقع الالكتروني لرئاسة مجلس الوزراء، فإنه منذ شباط 2014 تعاقب على وزارة المال وزيرين شيعة هما: علي حسن الخليل، غازي وزني. قبلها كان الوزير الشيعي الأخير الذي خطّ توقيعه في الوزارة هو أسعد دياب لفترة خمسة أشهر من 16 أيار 1992 لغاية 31 تشرين الأول 1992. وقبله كان علي الخليل من نهاية 1989 لغاية استلام دياب.

سبقهما أيضاً عادل حمية في 1980. المسألة كلّها مرتبطة بما قبل اتفاق الطائف وما بعده. بذلك يكون ياسين جابر هو ثلاث حامل لـ«أمانة» التوقيع الثالث. جابر يعمل في قطاع العقارات في لبنان والخارج مع شقيقه رباح.

وهو نائب منذ فترة طويلة حتى أحجم عنها في الانتخابات الأخيرة. آخر أهمّ أعمال جابر في المجلس النيابي هي لجنة تقصّي الحقائق التي انبثقت من لجنة المال والموازنة أيام خطّة لازار للتعافي المالي التي وضعتها حكومة حسان دياب في عهد الوزير غازي وزني.

بمعزل عن كل السجال بشأن تقييم نتائج اللجنة التي كان فيها رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان والنائب (السابق) نقولا نحاس والنائب علي فياض، إلا أنها أفضت إلى تهشيم خطّة لازار ووقفها بالكامل. الخلاف كان حول توزيع الخسائر في القطاع المالي وتحميل الجزء الأهمّ منها للمصارف.

في تلك الفترة، قالها رياض سلامة بالفم الملآن، لن أترك مصرفاً يفلس. الواقع أن كل المصارف كانت قد أفلست. جابر شخصية وازنة بين رجال السياسية والمال في لبنان، ولديه علاقات واسعة وقويّة مع المنظمات الدولية والسفراء أكثر من أي شخصية أخرى في الحكومة العتيدة.

كان أول تصريح له أن معالجة الودائع تبدأ بمصرف لبنان، وهو الكلام الذي يعني مباشرة أنه يترتّب على الدولة أن تدفع أولاً. وما قاله أيضاً يعني أن الودائع مقدّسة، وهي السردية التي حاولت قوى السلطة أن تروّج لها طيلة السنوات الخمسة الأخيرة. مسألة التوقيع الثالث ليست بالحجم الذي يسوّق له، إلا في ما خصّ اعتبار وزارة المال إحدى قنوات التوزيع من خلال إدارة التدفقات بالتعاون مع مصرف لبنان.

قد تكون حنين السيد، الآتية من البنك الدولي هي ثاني أبرز لاعب في الحكومة العتيدة. فهي كانت المسؤولة عن ملف الشؤون الاجتماعية في مكتب البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. قبل سنوات من استقالتها، أيام كان فريد بلحاج رئيساً للمكتب، جرت إعادة هيكلة في البنك الدولي لتصبح حنين قائدة في المكتب على أربع ملفات من بينها الشؤون الاجتماعية والصحّة والعمل.

من تعامل مع البنك الدولي في تلك الفترة كان يدرك بأن لديها توجّهاً سياسياً مضمراً. فهي حاولت التقرّب من قيادات في «14 آذار»، وهي التي ألغت، كما يروي بعض هؤلاء، شخصية فريد بلحاج، حتى ظنّها كثيرون مديرة المكتب بدلاً منه.

استمرّت بموقعها حتى أقضيت على يد ساروج كوما جاه بعد تعيينه بدلاً من بلحاج. في إحدى المرّات كانت حنين تسوّق لبرنامج مشترك مع وزارة العمل وقرّرت أن تخصص من القرض الذي سيمنحه البنك لهذا البرنامج عشرات ملايين الدولارات على «الاستشارات». يومها ثارت ثائرة وزير العمل كميل بوسليمان. السيد هي وراء أفكار من نوع «البطاقة الصحية»، ووراء أفكار من نوع «برنامج استهداف الفقراء»… الوزارة في لبنان كان أملها في العودة إلى النشاط في مكافحة الفقر على طريقة البنك الدولي: لن نعطيهم سنّارة ولن نعلمهم صيد السمك، بل نمنحهم بعضاً منه كل فترة.

يأتي جو عيسى الخوري من خلفية مختلفة. صحيح أنه يحمل مشروعاً للفدرالية في لبنان، لاعتقاده بأنه «يُصلح ما أفسده العطّار»، إلا أن أولوياته التعامل مع تفليسة المصارف من أجل بناء لبنان «الحديث». الاعتبارات التي ستولّدها الحكومة في التعامل مع قضايا لبنان ستكون محور أولوياته، فإن كانت اعتبارات مرتبطة بإعادة إنتاج لبنان على قاعدة الانتخابات الجديدة، سيطغى مشروع الفدرالية، وإن كان الإنقاذ هو الاعتبار الأساسي فسيركّز على التفليسة.

لديه رأياً في «نموذج لبنان الاقتصادي»، لأنه يسعى إلى تطبيق «الرأسمالية الحقيقية» وليس «رأسمالية الخلّان». يردّد أما عارفوه أن النموذج أفلس وأن صندوق النقد هو خيار النهوض الوحيد انطلاقاً من تراتبية توزيع الخسائر التي ينادي بها الصندوق، أي تصفير رساميل المصارف أولاً. كان داعماً لخطّة لازار رغم كونه عضواً في مجلس إدارة سرادار بنك.

وهو من كبار مستشاري رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي ويهتم بأعمال العائلة، لكنه اختار الابتعاد عن ممارسة أي نوع من السلطة في حكومة ميقاتي الأخيرة، ربطاً بقناعاته التي قد لا تتفق بالضرورة مع مساعي فريق الرئيس. ما يردّده عن أن المنطقة ذاهبة نحو السلام هو مقتنع به ولا يسعى إلى اي مواجهة من هذا النوع، بل يعتقد أن «الحياد» هو أفضل وسيلة للبقاء. آرائه السياسية مخالفة تماماً لمسائل مثل «المقاومة» التي يقرأها من منظور أوسع يتعلق بالعلاقات الدولية ومصالح المتصارعين الكبار.

ليست هناك حاجة واسعة للكثير من التفاصيل في سرد تاريخ «الشباب». فادي مكي، وكمال شحادة، وجو صدي، وآخرين، عملوا في فترة ما لدى شركة الاستشارات المشهورة عالمياً «بوز ألن». هي الشركة التي استضافت الكثير من التقنيين اللبنانيين وكانت نقطة انطلاق نحو أماكن أخرى، مثل جهاد أزعور الذي ترك وزارة المال والتحق بالشركة ثم انتقل إلى صندوق النقد الدولي.

لديهم الكثير من الخبرات التقنية، وهو أمر مطلوب إلا أن المشكلة في الكفاءة السياسية. فعلى سبيل المثال، إن الحديث عن خطّة الكهرباء يعدّ ضرباً من ضروب الجنون. لبنان يقترض الآن من العراق الفيول أويل ويترتب على ذمته نحو ملياري دولار ثمناً لهذا الفيول وهو غير قادر على تشغيل المعامل الحالية بطاقتها القصوى لإنتاج 1500 ميغاواط.

والكلام عن الهيئات الناظمة وسواها، ليس سوى هرطقة يردّدها وكلاء الزعيم اللبناني لأنه يريد قطع الطريق على زعيم آخر. المشكلة تكمن في نظام لبنان الاقتصادي: اي اقتصاد نريد في ظل ندرة الموارد المحلية؟ ماذا سننتج؟ كيف سنتعامل مع محيطنا؟ هل تمثّل سوريا سوقاً لنا؟ ما يمثّل العراق؟ أي منافسة مع تركيا؟ هل مرفأ بيروت أو مرفأ طرابلس قادران على المنافسة إذا تعافت سوريا التي تتحضّر للانخراط الواسع في الاقتصاد المفتوح؟ هل سنبقى مصنعاً لإنتاج شباب مغترب يغدق علينا بتحويلاته المالية؟ هل هذا يكفي؟

ثمة الكثير من الأسئلة التي تتعلق برسم استراتيجيات واضحة لم تقدم عليها القوى السياسية في لبنان، فكيف إذا كان الأمر مع مجموعة من أصحاب الكفاءات التقنية أو مع رجال أعمال – تجار.

فايز رسامي أتى من شركة رسامني يونس للسيارات مسمّى عن الدروز، فهل يدرك الرجل أن تجارته كانت مضرّة بلبنان طوال العقود الماضية، وأن لبنان كان يستورد سنوياً بأكثر من 1.5 مليار دولار سيارات وقطع غيار لها. فتمويل هذه السيارات كان بالعملة الأجنبية التي تدفقت إلى لبنان عبر المصارف، فاستعملنا الدولارات لشراء هذه السيارات التي كانت تُستَهلك بعد بضعة سنوات من دون أي مردود. هذا جزء من تبدّد الودائع.

ما معنى أن يكون الوزير صاحب اختصاص ليكون كفوءاً في إدارة وزارته؟ المفهوم المطروح ملتبس كثيراً، فالمسألة أن الكثير من أصحاب الاختصاص غير كفوئين في الإدارة.

الوزارة لا تحتاج إلى إلى تكنوقراط لرسم الاستراتيجيات، بل تحتاج إلى طبقة جديدة. فلنأخذ مثلاً. شارل الحاج يعمل في قطاع الاتصالات وهو شخصية معروفة في هذا المجال، لكنه أيضاً رجل أعمال حاول إدخال تقنيات ممنوعة في أيام الوزير شربل نحاس، وعندما رفض الوزير السابق الموافقة على إدخالها قامت الدنيا ولم تقعد. كمال شحادة صاحب اختصاص، لكن إدارته للهيئة الناظمة كانت ذات طابع سياسي، وهو الآن عيّن وزيراً للدولة لشؤون تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، فما معنى أن تكون وزيراً للذكاء الاصطناعي؟ من قرّر تخصيص وزارة لهذا التطوّر التقني الذي يفترض أه أداة لتنفيذ استراتيجيات وليس العكس.

في الواقع، إن ما اختلف بين الوزارات السابقة وبين الوزارة الحالية، هو أنها أدخلت طبقة جديدة يمكن تسميتهم تكنوقراط أو مستشارين أو تقنيين أو أياً كانوا. ثمة من يعوّل على هذه الحكومة للنهوض، لكن ما تروّج له الحكومة عن أهدافها يختلط فيه الإنقاذ بالإصلاح… الفرق كبير بين الأمرين. لبنان عاد إلى ناتج محلّي كان عليه قبل نحو 30 سنة، أي أنه بظرف أشهر خسر كل العمل والناتج المتراكم في كل هذه السنوات، ويحتاج إلى سنوات كثيرة للعودة إلى ما كان عليه. دولة منهارة بمؤسساتها ولا تدرك ما الهدف الاقتصادي والاجتماعي من وجودها، وما الذي يفترض أن تأخذ شعبها إليه. الاختصاص ليس كافياً لإدارة المجتمع.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةتهريب المحروقات من لبنان إلى سوريا يتراجع و”لا يتوقف”
المقالة القادمةغازي وزني: سعر الصرف مستقرّ… لكن هشّ