في الأرقام التي أفصح عنها مصرف لبنان للعام الماضي، يُسجّل ميزان المدفوعات فائضًا مهولًا يتجاوز الـ 6.44 مليار دولار أميركي خلال العام 2024، مقارنة بفائض أكثر تواضعًا يقارب الـ 2.24 مليار دولار خلال العام السابق 2023، ومن قبله عجز كبير بقيمة 3.2 مليار دولار للعام 2022. من حيث المبدأ، وبالمفهوم الاقتصادي العام، يفترض أن يمثّل ميزان المدفوعات صافي المعاملات الاقتصاديّة بين لبنان والخارج، وهو ما يجعله مؤشرّا بالغ الأهميّة لتحليل الوضعين المالي والنقدي على المستوى المحلّي، ولتفاعلات البلاد مع الخارج. وتسجيل فائض ضخم بهذا الحجم، خلال العام 2024، يفترض أن يمثّل تحولًا إيجابيًا لافتًا. بل مبهرًا!
لكن بطبيعة الحال، وراء الأكمة ما وراءها. وتمامًا كما استعان المصرف المركزي بتغييرات محاسبيّة ودفتريّة، ناتجة عن تغيير سعر الصرف، لتسجيل فائض “وهمي” عام 2023، عاد المصرف المركزي لاعتماد مناورات أخرى، لتسجيل هذا الفائض الضخم عام 2024. اختلفت هذه المرّة نوعيّة المناورات الدفتريّة والمحاسبيّة، لكن النتيجة واحدة: ما يتم التصريح عنه من فوائض في ميزان المدفوعات، للعامين 2023 و2024، ليس حقيقًا ولا واقعيًا. وهذه الفوائض لا تعكس أي “تبادل” اقتصادي أو مالي مع الخارج، ولا تعكس أي عمليّات نقديّة فعليّة. وبشكل عام، لا يمكن الارتكاز إلى أرقام مصرف لبنان بخصوص هذا المؤشّر لبناء أي تحليل اقتصادي مفيد بخصوص التبادلات الماليّة والاقتصاديّة مع الخارج.
كيف تم تسجيل الفائض؟
العودة إلى قرارات المجلس المركزي للمصرف المركزي تُظهر أن المجلس قرّر في جلسته المنعقدة في 13/09/2024 أن يغيّر المعايير المعتمدة لاحتساب أرقام ميزان المدفوعات. وهذه المرّة، قرّر المجلس أن يدخل ضمن “حسبة” ميزان المدفوعات التغيّرات التي تطرأ على قيمة الذهب الذي يملكه المصرف، كما هي واردة في ميزانيّة المصرف نفسه. ومن المعلوم أن المصرف المركزي لا يقوم حاليًا ببيع أو شراء الذهب، كما لا يعكس هذا البند في الميزانيّة أي “تبادل” اقتصادي أو مالي فعلي مع الخارج. فما الغاية من هذه المناورة إذًا؟
المسألة بسيطة. مصرف لبنان يقوم بتغيير قيمة هذا البند، أي احتياطات الذهب، كل 15 يومًا، في بيان الوضع المالي الذي ينشره. هنا، يقوم المصرف المركزي بمراجعة التغيير في أسعار الذهب الرائجة عالميًا، ليعيد تقييد قيمة احتياطات الذهب الذي يملكه. وعلى هذا الأساس، بات ميزان المدفوعات يلحظ تغيّر قيمة الذهب “الموقوف” –بقانون- في مصرف لبنان، رغم أن هذا التغيير لا يشكل أي “تعامل اقتصادي دولي مع الخارج”، وفقًا للمفهوم البديهي لميزان المدفوعات.
بهذا الشكل، وبسبب الزيادة التي طرأت على أسعار الذهب العالميّة، والتي انعكست في قيمة احتياطات مصرف لبنان من الذهب، سجّل ميزان المدفوعات فائضًا بقيمة 6.44 مليار دولار أميركي عام 2024، رغم أن لبنان لم يسجّل طبعاً أي فائض بهذا الحجم في تعاملاته الماليّة مع الخارج. وأي دراسة اقتصاديّة، لن يكون بإمكانها الاعتماد على هذا الرقم بالتأكيد، لتحليل أي معطيات ترتبط بالمفهوم البديهي لميزان المدفوعات، طالما أن هذا الرقم يعتمد على معايير “غير تقليديّة” لاحتساب المؤشّر.
التذرّع بمعايير صندوق النقد
للقيام بهذا الآليّة غير التقليديّة في احتساب ميزان المدفوعات، والتي تبتعد عن مفهوم المؤشّر نفسه، تذرّع مصرف لبنان باعتماد معايير صندوق النقد الدولي، وتحديدًا “الطبعة السادسة من دليل ميزان المدفوعات والمركز الاستثماري الدولي” التي ينشرها الصندوق لهذا الغرض.
غير أن الاستعانة بهذا المرجع لا يبرّر أبدًا الآليّة التي اعتمدها مصرف لبنان، لاحتساب مؤشّر ميزان المدفوعات. إذ أنّ هذه الوثيقة -الصادرة بالفعل عن صندوق النقد- تنص على تسجيل المعاملات التي تنطوي على شراء أو بيع للذهب، ضمن مؤشّر ميزان المدفوعات. لكنّ التغييرات المحاسبيّة الناتجة عن تغيّر الأسعار -كما في حالة لبنان- لا تدخل في احتساب هذا المؤشّر، لكونها لا تعكس أي عمليّات ماليّة أو اقتصاديّة فعليّة. هي مجرّد تغييرات دفتريّة، لا ينبغي أن تؤثّر عن توازنات ميزان المدفوعات، كما فعل مصرف لبنان. ببساطة، أي ارتفاع أو انخفاض في قيمة احتياطات الذهب، نتيجة لتقلبات السوق، لا يُسجّل كمعاملة، وإنما يُعتبر إعادة تقييم للأصل، وهذا لا علاقة له بميزان المدفوعات.
لماذا يهم هذا النقاش اليوم؟ بكل وضوح: لأن ميزان المدفوعات يعتبر أحد أبرز المؤشّرات التي يمكن اعتمادها، كمرجع أساسي في قياس وضعيّة الاقتصاد المحلّي وتوازناته الماليّة والنقديّة. والعبث بهذا المؤشّر، يعني إفقاد الباحثين الاقتصاديين والمؤسسات الدوليّة القدرة على الاستعانة بهذا المؤشّر، في أي تحليل اقتصادي هادف.
ليست المرّة الأولى
من المهم الإشارة إلى أن هذه العمليّة لم تكن المرّة الأولى التي يجري فيها عرض أرقام ميزان المدفوعات، على نحوٍ لا يعكس أي تبادلات اقتصاديّة أو ماليّة مع العالم الخارجي. فخلال العام 2023، أدّى تصحيح سعر صرف الليرة -في الميزانيّات المصرفيّة- إلى خفض قيمة التزامات المصارف المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما استخدمه المصرف المركزي لتضخيم فائض ميزان المدفوعات، من دون أن يستند ذلك إلى أي معاملات ماليّة حقيقيّة. ولهذا السبب، لم يكن ميزان المدفوعات منذ العام 2023 مرجعًا جديًا لقياس تبادلات لبنان مع الخارج.
وعلى أي حال، يجب التذكير أن الحاكم السابق رياض سلامة كان له باعٌ طويل في التلاعب بأرقام ميزان المدفوعات، منذ أن قرّر ضم محفظة سندات اليوروبوندز التي يملكها المصرف المركزي إلى “حسبة” هذا المؤشّر. وكان هذا الإجراء تحايلًا فاضحًا، لكون هذه السندات لا تمثّل سوى ديون مترتبة على الدولة اللبنانيّة نفسها، فيما قرّر الحاكم السابق اعتبارها أصول يمكن أخذها بالاعتبار عند احتساب معاملات لبنان مع الخارج. ومنذ ذلك الوقت، تشوّه هذا المؤشّر كمفهوم في مصرف لبنان، وفي الأرقام التي يصرّح عنها المصرف دوريًا.
في الخلاصة، ونظرًا لحجم احتياطات الذهب الكبير في مصرف لبنان، سيكون متوقّعًا أن يتذبذب مؤشّر ميزان المدفوعات في المستقبل، على وقع تذبذب أسعار الذهب العالميّة. وكما سجّل المؤشّر فائضًا ضخمًا -ووهميًا- خلال العام الماضي، بفعل ارتفاع أسعار الذهب، سيعود ويسجّل عجزًا موازيًا، إذا انخفضت الأسعار لاحقًا. وقد يحدث العكس، فيسجّل فائضًا مماثلًا، إذا استمرّت أسعار الذهب في الارتفاع. لكن في الحالتين، لن يشكّل ما يسمّه مصرف لبنان “ميزان المدفوعات” مؤشّرًا له الحد الأدنى من المصداقيّة، إذا أردنا الاعتماد عليه لقياس معاملات البلاد مع الخارج.