مصير الودائع: ما لم يكشفه صنّاع القرار

لأكثر من أربع سنوات، ظل المودعون رهائن صنّاع القرار. وما كان يعتبر في السابق حقاً مالياً أساسياً أصبح الآن صراعا طويلاً ومؤلماً لملايين الأشخاص. ولا يزال العديد من المودعين غير متأكدين مما إذا كانوا سيرون أموالهم مرة أخرى، بينما يستمر صنّاع السياسات في تأخير الحلول الشفافة.

من بين المناقشات الأكثر إثارة للجدل ما أصبح يعرف بـ “شطب الودائع” – Deposits Write-Off. ماذا يعني هذا في الواقع؟ هل هو مبرر قانونياً أو مالياً؟ والأهم من ذلك، هل هو حل أخلاقي لأزمة خلقتها الإدارة المالية غير المسؤولة؟ شطب الودائع، بين عجز المودع وفشل أصحاب القرار. لنستكشف الآليات والهندسات المستخدمة لتآكل ثروات المودعين.

في المحاسبة – Accounting

من الناحية المالية والمحاسبية، يمكن للمصارف، أو أي مؤسسة تجارية، شطب موجوداتها (Assets) ولكن ليس مطلوباتها (Liabilities). تُعتبر الودائع في المصارف التزامات لأنها تُمثل الأموال المستحقة للعملاء. على عكس القروض المعدومة (وهي أصول يمكن للمصارف أن تعلن أنها غير قابلة للاسترداد وشطبها)، تظل الودائع التزاماً على المصرف حتى تتم تسويتها أو إعادة هيكلتها بشكل قانوني. لا يمكن للمصرف شطب الودائع من جانب واحد للأسباب التالية:

الودائع هي التزامات تعاقدية بموجب القوانين المالية اللبنانية والدولية.

● شطب الودائع دون موافقة المودع من شأنه أن ينتهك قوانين الملكية الخاصة.

● قد يتناقض مع مبادئ المحاسبة مثل المعايير الدولية للإبلاغ المالي (IFRS) ومبادئ المحاسبة المقبولة عموما (GAAP)، والتي تنص على تسوية الالتزامات أو إعادة هيكلتها أو إبراء ذمتها بشكل قانوني (مثل إجراءات الإفلاس).

كيف يمكن للمصارف حول العالم، أن تقلّل من أرصدة المودعين دون شطبها؟

نظراً لأن المصارف لا تستطيع محو الودائع بشكل مباشر، فإنها تستخدم آليات غير مباشرة لتقليل القيمة الحقيقية للودائع. تتضمن هذه الأساليب تقنيات الهندسة القانونية والتنظيمية والمالية التي تفرض خسائر على المودعين دون شطب التزاماتهم رسميا.

1. آلية الكفالة (Bail-In): تحويل الودائع إلى أسهم مصرفية. تسمح بعض أطر الحل المالي للمصارف المتعثرة بتحويل جزء من الودائع الكبيرة إلى أسهم مصرفية بدلاً من إعادة الأموال (From Liabilities to Equity). هذا يعني:

● يفقد المودعون إمكانية الوصول إلى أموالهم ويصبحون مساهمين في المصارف.

● أسهم المصارف هي أصول محفوفة بالمخاطر يمكن أن تتقلب قيمتها أو حتى تنهار.

● يتم إعادة رسملة المصرف باستخدام أموال المودعين بدلاً من مصادر أخرى.

الحصانة القانونية والرقابية

في الوضع اللبناني، يمكن إدراج الاحتمالات التالية:

● قد يصدر مصرف لبنان توجيهات لإعادة الرسملة.

● سيحتاج البرلمان اللبناني إلى تمرير قانون يسمح بالتحول القسري مع ضرورة أن يتبعه مرسوم تطبيقي.

● يمكن للجنة الرقابة على المصارف في لبنان الإشراف على إعادة الهيكلة.

في عام 2013، فرضت قبرص عملية إنقاذ حيث تم تحويل الودائع الكبيرة في بنك قبرص قسراً إلى أسهم لتحقيق الاستقرار في النظام المصرفي.

2. “الليلرة” – شكل من أشكال التخفيض الخفي لقيمة الودائع. تشير الليلرة إلى التحويل القسري للودائع بالعملة الأجنبية إلى الليرة اللبنانية أو عمليات السحب الخاضعة للرقابة من أرصدة الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية بأسعار مخفضة، دون سعر السوق الحر، وغير عادلة. يتم تحديد سعر صرف هذه التحويلات/السحوبات من قبل سلطة مختصة – مثل مصرف لبنان أو الحكومة اللبنانية – وليس من قِبَلْ كل مصرف على حدة أو المصارف مجتمعةً. لا يمكن للمصارف تحديد أسعار الصرف هذه من جانب واحد. يجب أن يتبعوا اللوائح والتوجيهات الرسمية الصادرة عن مصرف لبنان أو الجهات الأخرى ذات الصلة. هذا التمييز هنا مهم لأنه يؤكد حقيقة أن المصارف تنفذ هذه التحويلات القسرية ولكنها لا تمليها (banks execute but do not dictate these forced conversions) كما يسلط الضوء على المسؤولية القانونية لمصرف لبنان والحكومة في وضع هذه السياسات.

وقد أدّى هذا التحويل القسري (للسحوبات من وليس لكامل أرصدة الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية) إلى خسائر فادحة للمودعين للأسباب التالية:

● يضطر المودعون إلى سحب الأموال من حساباتهم بالعملة الأجنبية بالليرة اللبنانية بأسعار صرف مصطنعة، أقل بكثير من سعر السوق.

● يتم تجميد الحركة في حسابات العملة الأجنبية بشكل محكم، مما يمنع الوصول اليها.

● تخلق أسعار الصرف المتعددة ارتباكاً وثغرات قانونية وإجرائية.

الدعم القانوني والسلطات المختصة

● أصدر مصرف لبنان عدة تعاميم، مثل التعميم الأساسي 151 (بتاريخ 21 نيسان 202، يستهدف أرصدة حسابات الإدخار)، الذي يفرض شروط السحب بأسعار صرف أقل من السوق. تخلق هذه التوجيهات خسارة فعلية للمودعين مع الحفاظ على الالتزامات المصرفية الرسمية.

● يمكن للبرلمان اللبناني أن يصدر تشريعاً ينظم رسمياً مثل هذه التحويلات أو يضفي الشرعية على التحويلات القسرية للودائع، رغم أن مثل هذا القانون سيكون مثيراً للجدل إلى حد كبير ومن المرجح أن يكون غير دستوري بسبب حماية حقوق الملكية الخاصة.

● يتمتع المجلس الدستوري بسلطة مراجعة قانونية هذه الإجراءات المالية والطعن في أي توجيه حكومي أو مصرفي يتعارض مع القانون والدستور اللبناني.

أجبر كوراليتو الأرجنتيني (2001-2002) المودعين على تحويل ودائعهم بالدولار إلى بيزو بسعر منخفض بشكل مصطنع، مما تسبب في خسائر مالية واسعة النطاق للمودعين.

3. الإفلاس أو التصفية

إذا أصبح المصرف متعثراً وإتخذ قرار تصفيته، فإن المودعين سيخسرون جزءاً من مدخراتهم (جزء من الأصل أو الفوائد المستحقة على حساباتهم) للأسباب التالية:

● الودائع هي إلتزامات، وقد لا يكون لدى المصارف أصول كافية لتغطيتها.

● يتم بيع الأصول المتبقية للمصرف لتسديد الإلتزامات للدائنين، بما في ذلك المودعين.

● الأولوية في التصفية:

– الدائنون المضمونون (مثل الدائنين الذين لديهم مطالبات مدعومة بالضمانات)

– المطالبات الحكومية (الضرائب وأجور الموظفين والضمان الاجتماعي)

– المودعون (غالباً ما يتم تأمينهم إلى حد معين)

– الدائنون غير المضمونين (بمن فيهم كبار المودعين)

– المساهمون (عادة ما يخسرون كل شيء)

الحصانة القانونية

● سيحتاج البرلمان اللبناني إلى إصدار قانون لتسوية المصارف المتعثرة.

● وسيشرف مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على التصفية في ظل غياب حلول أخرى.

● من المفترض أن تقوم المؤسسة الوطنية لضمان الودائع بتأمين الودائع الصغيرة.

في انهيار ليمان براذرز (2008، الولايات المتحدة)، استعاد المودعون والدائنون جزءاً بسيطاً فقط من مطالباتهم بعد التصفية. أما بعد ذلك، في الأزمة المصرفية الأميركية لعام 2023، تمت تغطية جميع الودائع عند عتبة الـ 250,000 ألف دولار أو أقل من قبل المؤسسة الفدرالية لضمان الودائع (FDIC). في أشهر حالات التصفية في لبنان، بنك المدينة وبنك جي تي بي، لم يكن لدى كلا البنكين ما يكفي من السيولة أو الأصول لسداد المودعين بالكامل؛ تمت جدولة التسديد وتجسدت الخسائر في الفوائد المستحقة على الحسابات.

لماذا يستحيل إصدار قانون “شطب الودائع”؟

بينما يقترح البعض تشريع شطب الودائع “لتنظيف” القطاع المصرفي، فإن مثل هذا القانون من شأنه أن ينتهك حقوق الملكية الخاصة والالتزامات التعاقدية. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى:

● الطعون الدستورية في المحاكم اللبنانية.

● دعاوى المستثمرين محلياً ودولياً.

● المزيد من تآكل الثقة في النظام المالي اللبناني.

وبدلاً من ذلك، تعتمد الحكومة ومصرف لبنان على أساليب خفية (خفض قيمة العملة، وعمليات الإنقاذ، وضوابط رأس المال) لتحقيق نتائج مماثلة دون انتهاكات قانونية مباشرة.

تظل الودائع التزاماً حتى يتم تسويتها قانونيا

على الرغم من أن المصارف اللبنانية لم تشطب الودائع رسمياً، إلا أنها استخدمت الهندسة المالية، بتوجيهات من مصرف لبنان من خلال التعاميم الاستثنائية التي إنطلقت مع التعميم الأساسي رقم 150 – في 9 نيسان 2020 وحتى اليوم، لتقليل قيم الودائع بمرور الوقت. نتيجة لذلك:

● يتحمل المودعون بشكل فعال تكلفة الأزمة.

● لا يزال القطاع المصرفي متعثراً، مع عدم وجود خطة واضحة للحل.

● يجب أن تتبع أي إجراءات متعمدة لتخفيضات في قيمة الودائع عملية قانونية ومنظمة، مثل إعادة الهيكلة الطوعية أو إجراءات الإفلاس أو الإصلاحات التشريعية مع آليات التعويض المناسبة.

وفي الختام ،يجب على المودعين البقاء على اطلاع والمطالبة بالشفافية والعمل بشكل جماعي لحماية مصالحهم.

● يفتقر صغار المودعين القدرة على الوصول إلى حاجتهم من ودائعهم.

● بسبب صمود وقدرة مكونات القطاع الخاص على التأقلم مع المتغيرات الإقتصادية إستطاع عدد كبير من المودعين، من أصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة – تتعدى الـ 500 ألف دولار أميركي – إيجاد مصادر دخل تغنيهم عن طلب السحوبات بأسعار صرف غير عادلة.

● تتوفر لدى كبار المودعين – أصحاب الملايين – وسائل بديلة للحفاظ على أوضاعهم المالية ووقع خيارهم على الانتظار بدلاً من اتخاذ إجراءات قانونية.

في النتيجة، لا يمكن حل أزمة الانهيار في لبنان على حساب المودعين وحدهم. وهناك حاجة إلى نهج شفاف وخاضع للمساءلة وسليم قانونياً لاستعادة الثقة في النظام المالي مع ضمان دعم حقوق المودعين. والمصارف تُدرك أن بقاءها يعتمد على استعادة ثقة المودعين. يجب عليهم اتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع عملائهم من خلال الاستفادة من البنية التحتية للاتصالات الخاصة بهم لتقديم تحديثات واضحة وشفافة حول آليات تطمئن المودعين الى أموالهم.

ويتعين على المصارف أن تتحول إلى المشاركة، لأن إعادة بناء الثقة مع مكونات المجتمع اللبناني – المقيم وغير المقيم – ستحقق في نهاية المطاف فوائد طويلة الأجل أكبر من أي جهود لإعادة الرسملة أو إعادة الهيكلة. وفي غياب الحوار والحلول البناءة، سيظل كل من المصارف والمودعين محاصرين في دائرة من عدم اليقين. لقد انتهى وقت الانتظار، ويتعين على الدولة ومصرفها المركزي والمصارف والمودعين التشارك في الحلول، للمضي قدماً.

مصدرنداء الوطن - محمد فحيلي
المادة السابقةأربع محطات اقتصاديّة أمام الحكومة… هل تتخطاها؟
المقالة القادمةبعد قرار وزارة المالية بتمديد المهل حتى اذار ٢٠٢٨ هل تبدأ المفاوضات مع حاملي سندات اليوروبوندز ؟