المشاريع الفرديّة تنعش الإقتصاد الوطني وتعيد الأمل في لبنان

في زحمة الأزمات الاقتصادية التي عصفت بلبنان كالأمواج العاتية، كان لا بدّ للأفراد أن يشقّوا لأنفسهم دروباً جديدة للنجاة. فبينما تتهاوى المؤسسات الكبرى، وتعصف الغيوم القاتمة بأسواق العمل التقليدية، برزت المشاريع الفردية كطوق نجاة وحيد في بحر الضائقة المالية. لم يعد امتلاك متجرٍ في شارع تجاري رئيسي، أو استئجار محلٍّ مكلف هو الخيار الوحيد لتحقيق الاستقلال المالي، بل حلّت محلّه منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحوّلت الصفحات الشخصية إلى واجهات عرض، وأصبح “تيك توك” و”انستغرام” بمثابة الأسواق الشعبية الحديثة، التي يروج من خلالها الشباب لمشاريعهم الناشئة.

أيضا في المطابخ المنزلية، لم يعد الطهو مجرد مهارة شخصية، بل صار مشروعاً استثمارياً بحد ذاته. من صناعة الحلويات إلى تحضير الوجبات المنزلية، وجد كثيرون في هذه الحِرف منفذاً للإنتاج وتوليد الدخل، بعيداً عن التكاليف الباهظة التي تفرضها الإيجارات والضرائب، او تلك التي تتطلب تمويلاً كبيراً. لقد تحوّل المنزل إلى مصنعٍ صغير، والإنترنت إلى ساحة بيع مفتوحة، حيث تمتزج رائحة الكعك المخبوز بأصوات العروض الترويجية في مقاطع الفيديو القصيرة، لتخلق نموذجاً اقتصادياً جديداً قائماً على المرونة والابتكار.

مئات المشاريع الحرّة تزدهر!

الجدير بالذكر ان فوائد هذه الظاهرة لا تقتصر على مستوى الأفراد فحسب، بل تتعداها إلى المجتمع ككل. فحين تزدهر الاستثمارات الخاصة، تتحرك عجلة الإنتاج المحلي، ويزداد الطلب على المواد الأولية من الطحين والسكر إلى الأقمشة والجلود، ما ينعكس إيجاباً على القطاعات التجارية والموردين. كما أن شيوعها يعزز مفهوم ريادة الأعمال، ويعيد بناء ثقافة الاعتماد على الذات بدل الاتكال على الوظائف التقليدية الآخذة في التقلّص.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن هذه المبادرات الصغيرة، رغم بساطتها، تساهم في تحريك السيولة داخل الأسواق المحلية، فتغذي القطاعات المرتبطة بها، وتخلق ديناميكية اقتصادية بديلة تتكيف مع واقع الانكماش الحاصل. إنّها بمثابة شرايين جديدة تضخ الحياة في جسد الاقتصاد المنهك، فتُبقيه صامداً رغم الأزمات.

في النهاية، يمكن القول إن المبادرات الفردية ليست مجرد حلول مؤقتة فرضتها الظروف، بل هي انعكاس لتحوّل اقتصادي واجتماعي عميق. هي ثورة ناعمة يقودها الشباب بأدوات العصر، حيث يُستبدل الرأسمال الضخم بالإبداع، وتتحول المنازل إلى مصانع، وتصبح الشاشات الصغيرة بوابات عبور نحو الاستقلال المالي. إنها تجربة تثبت أن الأزمات، رغم قسوتها، قد تكون الحافز الأكبر للابتكار، وأن من رحم الحاجة تولد أنماط جديدة من الاقتصاد، قادرة على التكيف، بل وربما على إعادة تشكيل الواقع بأسره.

همة الشباب لا حدود لها

الى جانب كل ما تقدم، لا يمكن إغفال مدى الابتكار الذي بات يرافق المشاريع الفردية في لبنان، فالأمر لم يعد مقتصراً على إعداد الوجبات أو الحرف اليدوية التقليدية، بل أصبح يشمل تحديثات تسويقية وأساليب إبداعية في الترويج، حتى باتت بعض هذه المشاريع قادرة على خلق هويات خاصة وعلامات تجارية مميزة. اللافت أن وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “تيك توك”، لم تعد مجرّد منصات عرض، بل تحوّلت إلى مختبرات للتجديد، حيث يبتكر أصحاب المشاريع أساليب دعائية غير اعتيادية، مستفيدين من قوة الصورة والصوت والتفاعل الفوري مع الجمهور.

تميّز لبناني فريد!

وفي الإطار، رأينا في الأشهر الأخيرة كيف يمكن لمنتج بسيط أن يتحوّل إلى ظاهرة تنتشر كالنار في الهشيم، تماماً كما حدث مع “شوكولاتة دبي”، التي اكتسحت وسائل التواصل الاجتماعي، وأثارت موجة من التقليد والتجارب المنزلية. ورغم أن بعض المنتجات تتطلب تقنيات تصنيع متقدمة وبُنى تحتية صناعية، فإن ذلك لم يمنع الأفراد من المحاولة، بل زاد من روح التحدي لديهم. وتصديقا لكل ما ذكر، تبرز “شوكولا بيروت” كتحفة فنية تحمل في طياتها عبق الذكريات ونكهة الهوية. إنها ليست مجرد قطعة شوكولا، بل رسالة مغلّفة بالحلم والحب، تماماً كطابع بريد قديم يشق طريقه عبر الأزمنة، ليحمل معه رائحة زهر الليمون ونكهة البقلاوة المقرمشة، وكأنها ذاكرة الوطن المختزنة في قالب صغير من الشوكولا.

فالشيف فيليب خوري، صاحب هذه الفكرة، لم يكتفِ بصنع شوكولا فاخرة، بل حاك فيها قصة لبنان، حيث تجتمع كريمة الكاجو الناعمة مع شوكولا حليب اللوز، في مزيج يترجم تراث البلد وأصالته في مذاقٍ واحد. وكأن “شوكولا بيروت” أرزة مصغّرة، تقاوم النسيان وتُغري الأذواق الباحثة عن دفء الوطن وسط برودة الاغتراب.

بهذه التحفة، يضع خوري بصمته في سجل الشوكولا العالمي، محولًا المذاق إلى رسالة، والقطعة الواحدة إلى رواية تُروى بقضمة واحدة. “شوكولا بيروت” ليست مجرد حلوى، بل تجربة تُعيد لمن يتذوقها الإحساس بشرفات البيوت اللبنانية القديمة، وبشوارع بيروت التي لا تزال، رغم كل شيء تنبض بالحياة.

هذه الديناميكية لا تعكس فقط قدرة اللبنانيين على التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بل تبرهن أيضاً على أن الابتكار لا يحتاج إلى إمكانيات ضخمة، بل إلى رؤية وإصرار. ففي ظل غياب الدعم الرسمي، باتت هذه المشاريع الفردية هي الرهان الوحيد للشباب الباحث عن الاستقلال المالي، وهي في الوقت نفسه شهادة على أن التفوق اللبناني سيظل ينبض بالحياة رغم المحن.

عصرنة “الكيوسك” بلمسة لبنانية

في ضوء ما تقدم، كان لافتاً ان هذه المشاريع لا تقتصر على المنتجات الاعتيادية فقط، بل تشهد تطورا وابتكارا مستمرين. فمع انتشار ثقافة “الفاست فود”، برزت كيوسكات متخصصة في تقديم أصناف مستحدثة من الهمبرغر، حيث يتفنن أصحابها في إضافة لمسات جديدة تجمع بين الطابع الغربي والنكهات المحلية، ما يجعل من هذه الأكشاك وجهات مفضلة للشباب الباحث عن تجارب غذائية غير تقليدية. وما يميزها أنها تتطلب رأسمالًا أقل مقارنة بالمطاعم والمحلات التجارية، مما يتيح لعدد كبير من الشباب الدخول إلى سوق العمل دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة، كما أنها تشكل حلقة اقتصادية متكاملة، حيث تعتمد على موردين محليين للمواد الأولية، مما يساهم في تحريك عجلة الإنتاج على نطاق أوسع.

في جميع الأحوال، يعكس انتشار الكيوسكات والعربات المتنقلة في لبنان، مرونة السوق المحلي واستجابته السريعة للمتغيرات الاقتصادية. ورغم بساطة هذه المشاريع، فإنها تعبّر عن ثقافة جديدة قوامها الابتكار والتأقلم، حيث يصبح الشارع ليس فقط مكاناً للعبور، بل ساحةً للفرص، يلتقي فيها الإبداع الفردي مع حاجات الناس اليومية، في مشهد يعكس حيوية المجتمع اللبناني وإصراره على إيجاد الحلول مهما كانت التحديات.

مشوار الالف ميل يبدأ بخطوة!

وفي خضم الأزمات التي عصفت بلبنان منذ “ثورة 17 تشرين” 2019، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين لإعادة بناء حياتهم المهنية من الصفر، في مواجهة انهيار اقتصادي لم يُبقِ مجالاً واسعاً للاختيار. إبراهيم واحد من هؤلاء، يقول لـ “الديار”: بعد ان فقد كثيرون من حولي وظائفهم، لم انتظر يد العون، فقررت انشاء مشروع بسيط لكنه واعد من خلال عربة متواضعة اركنها تحت جسر المشرفية، واعرض عليها العرانيس المشوية، الترمس والشمندر الاحمر، لتتحول مع الأيام إلى مصدر رزقي الأساسي”.

ولا يخفي ابراهيم أنه كان بإمكانه البحث عن وظيفة تقليدية، لكنه أدرك أن سوق العمل في لبنان لم يعد كما كان، وأن البطالة التي تجاوزت 260 ألف شخص وفق التقديرات التقريبية لـ “الدولية للمعلومات”، تجعل من إيجاد وظيفة مستقرة أمرا بالغ الصعوبة. لذلك، اختار طريقا آخر، حيث يكون هو صاحب القرار في عمله، متحكما بأرباحه وفق مجهوده اليومي، بعيدا عن الالتزامات المالية المرهقة كفواتير الكهرباء والإيجارات والضرائب، التي تخنق المشاريع الصغيرة في الظروف الحالية.

الاعمال المستقلة تتزايد!

من جانبه، يقول أحمد عماد وهبي، صاحب مطعم ومقدّم محتوى يُعنى بتقدير المأكولات التي تعود لمشاريع فردية لـ “الديار”: “بالنسبة للأنشطة الخاصة التي تُفتتح في المنازل، فإن تناميها يعود إلى القدرة المالية لصاحب المشروع نفسه، إذ ليس بمقدور الكثيرين فتح مطعم وتحمل نفقاته، مثل استئجار محل وتجهيزه، بما في ذلك الطلاء والتصميم، الذي يُعد جزءاً لا يتجزأ من المكان. لذلك، فإن العمل من المنزل لا يتطلب مصاريف كبيرة، بحيث إن فشل المشروع، لا يكون صاحبه ملزما بدفع أقساط أو فواتير، ما يجعل وقع الخسارة أخف”.

ويضيف “هذا الوضع يدفع 90% من الأشخاص إلى تنفيذ مشاريعهم من منازلهم، في حين أن 10% فقط لديهم القدرة على فتح مشاريع تقليدية، لكنهم يفضلون تجنب التكاليف الإضافية، ما يحقق لهم مكاسب أكبر. وهناك العديد من المبادرات الشخصية التي تستحق تسليط الضوء عليها، وهي أعمال مهمة لكنها تفتقر إلى القدرة المالية لتطويرها، لذا يقرر أصحابها البدء من المنزل وتأجيل توسيع مشاريعهم وأحلامهم”.

ويختم “على الصعيد الشخصي، فأنا كشخص أقوم بتصوير مطاعم متواضعة، أرى أن هناك أنشطة ريادية تستحق التقدم والانتشار وفتح فروع جديدة، نظرا إلى إتقان عملها. وهذا ينطبق أيضا على الكيوسكات، التي يكون تنوع أصنافها محدودا مقارنةً بالمنازل، حيث تكون التشكيلة اوسع”.

“البسطات” استثمار مستدام!

وفي جولة ميدانية لـ “الديار” على عدد من المناطق اللبنانية، كان لافتًا مدى تطور وانتشار الاكشاك والمشاريع المتنقلة، التي بدأت تأخذ طابعا أكثر احترافية، سواء من حيث التصميم أو التنظيم. فمن فرن الشباك إلى الجميزة، ومن جل الديب إلى الزلقا وجونيه، أصبحت هذه المشاريع جزءاً لا يتجزأ من المشهد الاقتصادي اليومي، حيث باتت تلفت الأنظار بمظهرها المرتب والجاذب، ما يعكس جدية أصحابها في تحويلها إلى مشاريع مستدامة.

رمضان.. موسم الانتعاش لعربات البيع

أما في رمضان فتأخذ هذه الظاهرة بعدا مختلفا، حيث تزدحم الشوارع بعربات تعرض ما يزدهر الطلب عليه خلال هذا الشهر، من المأكولات التقليدية والمشروبات الرمضانية إلى الفوانيس والزينة. والمشهد الأكثر تأثيراً هو وجود كبار السن الذين يقفون بمحبة وإيجابية خلف عرباتهم، يبيعون الفوانيس بأمل واضح في عيونهم، وكأنهم ينقلون رسالة تفاؤل رغم كل التحديات. في زقاق البلاط، الحمراء وساحات أخرى، تتكرر هذه المشاهد، لتؤكد أن العمل لا عمر له، وأن الرزق لمن يسعى إليه، ولو بعربة صغيرة على جانب الطريق.

في الخلاصة، ترى “الديار” أن تسليط الضوء على هذه الظاهرة ليس مجرد رصد لحركة الأسواق، بل هو رسالة إنسانية تعكس الأمل الذي يمكن أن تصنعه المبادرات الفردية في حياة الشباب. فحين يجد هؤلاء أن مشروعاً بسيطاً قد يحقق لهم أرباحاً تضمن لهم الاستقلال المالي، يصبح الطريق إلى العمل الحر أكثر وضوحاً، والخطوة الأولى هي المفتاح الأساسي للانطلاق. لا شيء يولد كاملًا، لكن الجرأة على البدء تصنع الفرق، وهي الرسالة التي تحاول “الديار” إيصالها: لا تنتظر الظروف المثالية، بل اصنع فرصتك بنفسك.

مصدرالديار - ندى عبد الرزاق
المادة السابقةالنبيذ اللبناني بات ينافس في الاسواق الاميركية والاوروبية
المقالة القادمةإدارة ترمب تلمح إلى استثناءات في الرسوم المفروضة على كندا والمكسيك