من جدّد لعبد الحفيظ منصور؟ أول قرارات هيئة التحقيق الخاصة: كسب رضى واشنطن

أرسلت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان قراراً إلى وزارة المالية، يقضي بوضع إشارة منع تصرّف بعقارات تعود ملكيتها إلى أشخاص لبنانيين، شملهم برنامج العقوبات (أوفاك) في وزارة الخزانة الأميركية لأسباب سياسية.

وهي المرة الأولى التي تصدر قرارات من هذا النوع. الواضح من المتابعات أن آلية اتخاذ القرار جرت وفقاً لاستنسابية قام بها منصور نفسه مستنداً إلى قرار وزارة الخزانة الأميركية فقط. علماً أن قراره قابل للطعن من قبل المتضررين. وفي حال رفع هؤلاء دعوى إبطال للقرار، فإن على منصور تبيان المعطيات التي تدفعه إلى هذا القرار، لا سيما إذا كان الأشخاص المعنيون قد خرقوا القوانين المالية والنقدية والضريبية في لبنان، وليس في الولايات المتحدة.

تجدر الإشارة إلى أن منصور يحتل منصبه منذ 15 سنة، وهي المرة الرابعة التي يجدد له لخمس سنوات إضافية، حتى يكاد ينافس الحاكم السابق رياض سلامة في البقاء في منصب حسّاس يفترض أن يشمله التغيير قبل أي موقع آخر في المصرف.

قرار التجديد لمنصور مُرّر بطريقة ملتوية، ولم يحصل اعتراض عليه من قبل حاكم مصرف لبنان الجديد كريم سعيد الذي يقول إنه وافق تلقائياً على القرار الذي اتخذه المجلس المركزي أثناء تولي الدكتور وسيم منصوري منصب الحاكم بالإنابة. لكنّ الواضح أن إبقاء منصور في منصبه هو جزء من الترتيبات الخاصة بدعم بقاء «رجال أميركا» في مصرف لبنان، كما هي الحال مع النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري الذي يقدم استشارات للحاكم الجديد، وسبق للأميركيين أن طالبوا بأن يتولى شخصياً التدقيق في ملفات مصارف وحتى أشخاص تطاردهم الإدارة الاميركية لأسباب سياسية.

وبهذا المعنى، يفهم بأن القرار الأخير الذي أصدره منصور وأرسله إلى المدير العام لوزارة المالية جورج معراوي لتنفيذه من قبل الدوائر العقارية يحقق مطالب أميركية.

وتُعدّ هيئة التحقيق الخاصة المرجع الوطني المختص قانوناً بجمع وتحليل المعلومات المرتبطة بجرائم تبييض الأموال، لا سيّما تلك التي تمر عبر النظام المصرفي، سواء عبر الإبلاغات الواردة إليها من المصارف والمؤسسات المالية، أو عبر تبادل المعلومات مع وحدات الاستخبارات المالية (FIUs) في الخارج.

وبحسب أحكام القانون الرقم 318/2001 وتعديلاته، يتوجّب على الهيئة، قبل اتخاذ أي تدبير من نوع تجميد الأموال أو وضع إشارات عقارية، تكوين ملف تحقيقي متكامل يتضمن تفاصيل التحويلات المشبوهة، مصدر الأموال، طبيعة العمليات، وجهة التحويلات، وسائر المؤشرات الدالة على وجود شبهة تبييض أموال. فإذا ثبت للهيئة وجود شبهات جدية مدعومة بالأدلة، تعمد إلى تجميد الأموال بصورة احترازية، وتحيل الملف إلى القضاء المختص، ليُصار إلى إجراء المحاكمة واتخاذ القرار النهائي بشأن مصادر الأموال وإمكانية مصادرتها.

أما الاكتفاء بتجميد الأموال أو وضع إشارات على الممتلكات لمجرد أن أصحابها وردت أسماؤهم على لائحة عقوبات أجنبية (OFAC) من دون إجراء أي تحقيق فعلي أو جمع أدلة، فذلك لا يرقى إلى مستوى العمل القانوني السليم، بل قد يشكل إخلالاً فادحاً بمهمات الهيئة واختصاصها. فمثل هذا الإجراء لا يقدّم أي قيمة قانونية فعلية أمام المحاكم اللبنانية، لأن مجرد الإدراج على موقع إلكتروني لجهة أجنبية، لا يشكل دليلاً قضائياً كافياً للإدانة. وبالتالي، فإن أي قاضٍ لبناني يحترم المعايير القانونية سيرفع التجميد عند غياب العناصر المادية التي تثبت وقوع جرم تبييض الأموال، ما يؤدي عملياً إلى تحميل القضاء تبعات فشل الهيئة في القيام بواجباتها التحقيقية.

وإذا كان إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) يعكس ضعفاً ممنهجاً في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فإن أحد أبرز أسباب هذا الفشل يعود إلى أداء هيئة التحقيق الخاصة منذ إنشائها عام 2001، وعدم ارتقائها إلى مستوى التحديات التي تواجهها البلاد في هذا المجال. وقد بات من الواضح أن التعويل على قرارات خارجية من دون بناء ملفات تحقيقية متينة يعرّض لبنان لخطر وضعه على اللائحة السوداء، من دون أن يحقق أي نتائج قانونية فعلية.

وفي هذا السياق، كان وزير العدل قد أعلن عن تشكيل لجنة مختصة بهدف إعداد خطة للخروج من اللائحة الرمادية، وهو ما اعتُبر خطوة في الاتجاه الصحيح من حيث الشكل. إلا أن الوزير لم يُعلن للرأي العام عن مضمون التقرير الذي أعدّته اللجنة، ولا عن الخطوات العملية التي اتُّخذت استناداً إليه، ما يثير شكوكاً جدية حول مدى الجدية والشفافية بمعالجة هذا الملف الحساس. فالصمت حيال تقرير هذه اللجنة يشكّل بدوره عنصراً إضافياً في مسلسل الفشل المؤسساتي في التعامل مع متطلبات الإصلاح المالي والحوكمة الرشيدة.

تجميد الأموال، وعموم التدابير المرتبطة بمكافحة الجرائم المالية، يجب أن تكون ثمرة تحقيق لبناني مستقل وجدّي، قائم على قرائن مثبتة، لا نتيجة ضغط سياسي أو إعلامي خارجي أو رغبة في إرضاء أي جهة خارجية. وما يحصل اليوم، يسيء إلى سمعة القضاء اللبناني، ويقوّض مفهوم العدالة، ويُمعن في ضرب ما تبقى من سيادة القانون، في حين يبقى المرتكبون الحقيقيون، ممّن راكموا الثروات بوسائل غير مشروعة، بمنأى عن أي محاسبة فعلية طالما أن هيئة التحقيق الخاصة لا تزال على ما هي عليه اليوم.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةسياسة ارتجالية لضبط سعر الصرف والتضخّم: مصرف لبنان «يعقّم» النقد
المقالة القادمةتعديل قانون الشراكة مع القطاع الخاص: القطاع العام من حصّة المصارف