خلافاً لما كان مأمولاً، فإن تحسّن سعر الصرف وتراجع أسعار بعض السلع والمواد في الأشهر الأولى التي أعقبت سقوط النظام السابق في سوريا، لم يسهم في حدوث انفراجات معيشية؛ لا بل إن أسراً كثيرة اضطرت إلى اتباع سياسات تأقلم أشدّ قسوة من السابق لتأمين أبسط احتياجات البقاء
مفارقتان سُجّلتا في الأسابيع الماضية: الأولى كانت في الإعلان عن وصول رابع سفينة محمّلة بما يزيد على 800 سيارة كورية، لتنضمّ إلى 100 ألف سيارة حديثة ومستعملة تم استيرادها أخيراً، وتُقدّر قيمتها بما بين 500 مليون ومليار دولار، بحسب ما ذكر خبراء اقتصاديون؛ أما الثانية، والتي حدثت في التوقيت نفسه، فتمثلت في إطلاق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مشروعاً هدفه مساعدة السوريين في ست محافظات على تأمين مادة الخبز، وذلك عبر تخفيض سعر مبيع ربطة الخبز من 4 آلاف ليرة إلى 2400 ليرة، فيما من المخطّط أن يمتدّ المشروع لاحقاً ليشمل بقية المحافظات. هاتان المفارقتان وغيرهما الكثير، تؤشران إلى وجود تباين شديد في أولويات الإنفاق لدى الأسر السورية نتيجة عوامل ومتغيرات متعدّدة ظهرت بعد سقوط النظام السابق، منها إلى جانب التركة الثقيلة السابقة: ارتفاع معدل البطالة إلى أكثر من 50% مع تسريح آلاف العاملين من المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية، تدهور الأوضاع الأمنية في بعض المحافظات والمناطق، ولا سيما في الساحل، تحسّن سعر صرف الليرة، زيادة التحويلات المالية الخارجية.
الجَمل بليرة
رغم الانخفاض الذي طرأ على أسعار بعض السلع والمواد في الأشهر الأولى من بداية العام الحالي، إلا أن ذلك لا يمكن عدّه مؤشراً على تحسن الأوضاع المعيشية لشريحة واسعة من السوريين. إذ إن ذلك الانخفاض قابلته مجموعة من الصعوبات، حالت دون تمكن الأسر من استثمار الانخفاض السعري لتحسين أوضاعها المعيشية. ولعلّ من أهم تلك الصعوبات ما يتعلق بمسألة حصول الموظفين في القطاعين العام والخاص على رواتبهم، بعدما تمّ تقييد عمليات السحب من المصارف، وتوقيف رواتب شريحة من المتقاعدين والتأخر في صرف بعضها، ومنح آلاف الموظفين إجازات مأجورة بحجة معالجة ملف العمالة الفائضة وفقدان آخرين بعض التعويضات الشهرية، وتسريح ما يزيد على نصف مليون عامل عسكري، وتعليق برامج التأمين الصحي للعاملين في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص لأشهر عدة.
وما يؤكد هذا الاستنتاج ما ذهب إليه «المركز السوري لبحوث السياسات»، أخيراً في تقريره، حول أسعار المستهلك والتضخم عن شهر شباط الماضي. إذ كشفت تقديرات المركز أن خط الفقر المدقع للأسرة السورية (كمؤشر على الحرمان من الغذاء) وصل على مستوى البلاد، في الشهر المذكور، إلى حوالى 2.54 مليون ليرة بانخفاض قدره 95 ألف ليرة مقارنة بالشهر السابق، أي إن فجوة الفقر في البلاد ما تزال على حالها، ولا سيما إذا ما أُخذ في الحسبان أن متوسط خط الفقر الأدنى سجلّ هو الآخر حوالى 4 ملايين ليرة، بانخفاض قدره 148 ألف ليرة عن كانون الثاني. كما قُدر خط الفقر الأعلى بحوالى 5.5 ملايين ليرة، بانخفاض بقيمة 205 آلاف ليرة. أما جغرافياً، فتتباين تقديرات خطوط الفقر على مستوى كل محافظة، مقارنة بالتقديرات المعلنة على المستوى الوطني، الأمر الذي يشير إلى أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب سياسة كلّية على المستوى الوطني، وأخرى محلية معنيّة بكلّ محافظة على حدة. فمثلاً، تَظهر خطوط الفقر في محافظات كدمشق وحمص وريف دمشق، أعلى من تلك المقدَّرة على المستوى الوطني، وهو ما يعني أن المقيمين في تلك المحافظات بحاجة إلى دخل أعلى للهروب من شبح الفقر، على عكس محافظات أخرى كالسويداء والحسكة ودير الزور واللاذقية، التي سجّلت أدنى قيم لخطوط الفقر على مستوى البلاد، من دون أن يعني ذلك أنها في أفضل أحوالها، بل يكاد ينطبق عليها المثل القائل: «الجمل بليرة وليرة ما في».
وعليه، فإن محافظة خطوط الفقر على حالها، وتزامن ذلك مع الصعوبات والمتغيرات السابق ذكرها، جميعها عوامل أدت إلى تعمق مشكلة الوضع المعيشي لشريحة ليست بالقليلة من السوريين (المسرّحين من الخدمة مثلاً)، واضطرار شريحة أخرى (المتضررين من أحداث الساحل مثلاً) إلى اتباع سياسات تأقلم أكثر قسوة من السابق، من قبيل تقليص أولويات الإنفاق لتبقى مقصورة على الغذاء لدى شريحة من الأسر، أو حتى على أنواع وسلوكيات معينة من الغذاء لدى شريحة أخرى، وبيع ممتلكات وتجهيزات، إلخ… فمثلاً، من بين أهم الأسباب المؤدية إلى انخفاض أسعار الملابس والأحذية في شباط الماضي بنسبة 8.8%، وهي نسبة انخفاض تعدّ الأعلى بين فئات السلع، كان نقص السيولة بين أيدي السوريين جراء العوامل المشار إليها سابقاً، والذي جعل أولوية شريحة ليست بالقليلة تنحصر فقط في شراء المواد الغذائية، والأساسية منها تحديداً، والاستغناء تالياً عن شراء الملابس والأحذية، وربما عن شراء الدواء أيضاً.
الأكثر فقراً
يأتي العاملون بأجر، والذين يمثلون ما نسبته حوالى 62.5% من إجمالي عدد المشتغلين في البلاد، في مقدمة الشرائح الاجتماعية المضطرة إلى التقشف، ولا سيما العاملين بأجر لدى القطاع العام والبالغة نسبتهم حوالى 50% من إجمالي عدد المشتغلين بأجر. وبحسب ما يذكر «المركز السوري»، فإن جميع موظفي القطاع العام، على اختلاف مناطق السيطرة، يتقاضون أجوراً لا تغطي الحد الأدنى المطلوب من السلع والمواد التي يحتاجونها لحياة كريمة (قبل الزيادة الأخيرة البالغة 200% والتي لم تطبق إلى حينه). لكن معدل الأجور يختلف من منطقة إلى أخرى؛ فموظفو القطاع العام في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق يواجهون المعاناة الأشدّ، بالنظر إلى أن أجورهم لا تغطي سوى 5.6% من حاجاتهم الأساسية وفقاً لتقديرات شباط الماضي، فيما النسبة نفسها تبلغ في معاقل «الإدارة الذاتية» 24%، وفي المناطق التي كانت تحت سلطة الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ 33%. ويأمل العاملون في مؤسسات الدولة أن تسهم الزيادة الأخيرة، والمتوقع تطبيقها بدءاً من شهر آب القادم، في تحسين أوضاعهم المعيشية، لكن ذلك سيظل مرتبطاً بعدة عوامل أهمها: قدرة الحكومة الانتقالية على ضبط معدل التضخم، عدم تطبيق زيادات سعرية على السلع والخدمات المدعومة (الكهرباء، المياه، والاتصالات…)، فضلاً عن تسهيل عملية حصول العاملين على رواتبهم من الصرافات الآلية.



