أصدرت الجمارك اللبنانيّة الأرقام الكاملة لتجارة لبنان الخارجيّة، للنصف الأوّل من هذه السنة، أي لغاية أواخر شهر حزيران. ومجددًا، أظهرت الأرقام زيادة ملحوظة في قيمة السلع والخدمات المستوردة، مقابل زيادة موازية في قيمة الصادرات. أمّا النتيجة الإجماليّة لهذه الأرقام، فكانت ارتفاعًا في عجز الميزان التجاري، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وهو ما يعني زيادة الحاجة للعملة الصعبة لتمويل الفارق السلبي ما بين حجميّ الصادرات والواردات. وفي جميع الحالات، ظلّ حجم التصدير الإجمالي محدودًا للغاية، قياسًا بحاجة البلاد للاستيراد لتلبية الطلب الداخلي على الاستهلاك.
أرقام الميزان التجاري
خلال النصف الأوّل من العام الجاري، أظهرت الأرقام ارتفاعًا مؤثّرًا في قيمة السلع والواردات المستوردة، لغاية 9.61 مليار دولار أميركي، مقارنة بقيمة لم تتجاوز 8.38 مليار دولار أميركي خلال الفترة المماثلة من العام 2024. وهو ما يشير إلى نسبة زيادة قدرها 14.65 بالمئة بين الفترتين.
وهذا التحوّل، كما كان واضحًا، جاء مدفوعًا بزيادة معدلات الاستهلاك، بعد دخول البلاد مرحلة وقف إطلاق النار منذ أواخر تشرين الثاني الماضي. مع الإشارة إلى أنّ البلاد كانت تشهد طوال العام الماضي ضمورًا في النشاط الاستهلاكي، جرّاء المواجهات في جنوب لبنان قبل أيلول 2024، ثم اتّساع نطاق الحرب إلى سائر أنحاء لبنان بعدها.
في المقابل، وخلال النصف الأوّل من العام الحالي أيضًا، سجّلت أرقام التجارة الخارجيّة زيادة موازية في قيمة السلع والخدمات المُصدّرة من البلاد، إلى حدود 1.74 مليار دولار أميركي، مقارنة بمستوى لم يتجاوز 1.42 مليار دولار أميركي خلال الفترة المماثلة من العام الماضي.
ومرّة جديدة، بدا هذا التحسّن في أرقام الصادرات اتعكاسًا لتعافي النشاط الإنتاجي خلال العام الحالي، بموازاة الاستقرار الأمني النسبي هذه السنة، مقارنة بالسنة الفائتة. كما يبدو أنّ القطاعات الإنتاجيّة اللبنانيّة قد تأقلمت مع الوقائع المُستجدة منذ أواخر العام 2023، المرتبطة بأمن الملاحة البحريّة، ووجدت أسواقًا وخطوط شحن جديدة تتناسب مع حاجات التصدير الخاصّة بها. ومن المعلوم أن اضطرابات البحر الأحمر أدّت إلى ارتفاع كلفة الشحن والتأمين على الشحن البحري على مدى السنة الماضية، وهو ما اربك خطوط التجارة الدوليّة، قبل أن تعود الشركات المصدّرة للتأقلم تدريجيًا.
في خلاصة هذه الأرقام، بلغ حجم العجز في الميزان التجاري، أي الفارق ما بين الصادرات والواردات، حدود 7.87 مليار دولار أميركي خلال النصف الأوّل من هذه السنة، مقارنة بمستوى لم يتخطى 6.96 مليار دولار خلال الفترة المماثلة من العام 2024. وهذا ما يعني أنّ عجز الميزان التجاري ارتفع بين الفترتين بنسبة 12.95 بالمئة. وبشكلٍ عام، يمكن القول أنّ هذا المبلغ يمثّل الحاجة الإجماليّة للعملات الأجنبيّة، لتمويل حركة الاستيراد، وتغطية الفارق ما بين قيمة السلع والخدمات المستوردة من جهة، وتلك المُصدّرة من جهة أخرى.
تغيّرات شهر حزيران
على صعيد شهر، سجّل شهر حزيران تغيّرات مفاجئة وواضحة. إذ انخفض حجم الاستيراد خلال هذا الشهر إلى 1.47 مليار دولار أميركي، مقارنة بقيمة تجاوزت 1.82 مليار دولار أميركي خلال شهر أيّار، أي بانخفاض كبير نسبته 19.37 بالمئة. وخلال الشهر نفسه، انخفضت قيمة الصادرات بنسبة 7 بالمئة أيضًا، من 284 مليون دولار أميركي خلال شهر أيّار، إلى نحو 264 مليون دولار أميركي خلال شهر حزيران.
وكان واضحًا أنّ جميع هذه التحوّلات جاءت مدفوعة بالاضطرابات التي رافقت التصعيد ما بين إسرائيل وإيران، خلال ذلك الشهر بالتحديد. ومن المعلوم أنّ هذه الأحداث لم تؤثّر بشكلٍ مباشر على خطوط الشحن البحري، ولم تؤدّي إلى انقطاع خطوط الملاحة الجويّة في مطار بيروت، إلا خلال فترة وجيزة جدًا. ولكنّ الاضطرابات ساهمت بفرملة خطط الشراء لدى الشركات اللبنانيّة، بانتظار انجلاء الوضع، واتضاح تأثير هذه الأحداث على لبنان. كما ساهمت هذه الاضطرابات في تريّث المُصدّرين والمستوردين، قبل تسجيل طلبات الشحن، تحسبًا لإمكانيّة تضرّر خطوط الشحن البحري.
وجهات التصدير والاستيراد
على مستوى الاستيراد، ظلّت الصين الشريك التجاري الأوّل للبنان، إذ بلغت قيمة السلع الصينيّة المستوردة إلى البلاد حدود 1.07 مليار دولار أميركي خلال النصف أوّل من السنة، ما شكّل 11 بالمئة القيمة الإجماليّة للسلع المستوردة. وحلّت في المرتبة الثانية اليونان، بقيمة واردات بلغت 879 مليون دولار، وبنسبة 9 من إجمالي الواردات. ثم الإمارات العربيّة المتحدة بقيمة واردات بلغت 732 مليون دولار وبنسبة 8 بالمئة من الواردات.
أما على مستوى التصدير، كانت سويسرا الوجهة الأولى للصاردات اللبنانيّة، وبقيمة 362 مليون دولار خلال النصف الأوّل من السنة (تمثّل 21 بالمئة من الصادرات الإجماليّة). وحلّت في المرتبة الثانية الإمارات العربيّة المتحدة، بصادرات قيمتها 314 مليون دولار، ونسبتها -من إجمالي الصادرات- 18 بالمئة. وأخيرًا، حلّت الولايات المتحدة الأميركيّة في المرتبة الثالثة، بصادرات قيمتها 77 مليون دولار أميركي، ونسبتها 4 بالمئة من إجمالي الصادرات. وبشكلٍ عام، يمكن القول أنّ 39 بالمئة من الصادرات اللبنانيّة كانت وجهتها سويسرا والإمارات العربيّة المتحدة، ما يشكّل نسبة تركّز كبيرة ومؤثّرة لهذه الصادرات.
في النتيجة، ظلّت الأرقام تعكس أبرز معالم الهشاشة في النموذج الاقتصادي اللبناني، المتمثّلة في إفراط البلاد في الاعتماد على الاستيراد، مقابل محدوديّة حجم الصادرات الإجماليّة. فقيمة الصادرات، لم تعد تمثّل اليوم أكثر من 18 بالمئة، مقارنة بحجم الاستيراد الإجمالي. وبهذا الشكل، بات البلاد أسيرة الحاجة لتدفّقات منتظمة من العملات الأجنبيّة، من تحويلات المغتربين، لتمويل الحاجات الاستهلاكيّة. وهذا الخلل البنيوي، بات مستقرًّا في طبيعة النظام الاقتصادي نفسه.



