في لبنان، البلد الذي تعجّ مطاعمه ومقاهيه وملاهيه بالحركة على مدار العام، رغم الانهيار الاقتصادي، يبدو مثيراً أن يدعى الزبائن، في شكل غير مباشر، إلى المساهمة مع أصحاب العمل في تسديد رواتب موظفيهمم، الذين غالباً ما يتعرّضون لغبن المؤسسات.
هذه الدعوة صدرت عن نقيب أصحاب المطاعم طوني الرامي الذي ناشد الزبائن أن يتركوا على الطاولة “إكرامية” تصل إلى 15 في المئة من قيمة الفاتورة. ولم تكن دعوته هذه من باب التمنّي إنما من باب تعليم اللبنانيين “أصول الإكرامية”، بحسب وجهة نظره. واعتُبرت الدعوة في رأي البعض تشجيعًا على “ثقافة الامتنان”، في حين اعتبرها البعض الآخر إقراراً ضمنياً بالتهرّب من سداد حقوق العاملين. فكأن المطاعم والمقاهي تعتمد بجزء من ميزانياتها على إكراميات الزبائن.
وتفتح هذه الدعوة بابًا واسعًا للنقاش حول العدالة في توزيع الأرباح داخل قطاع سياحي نشط، يعمل من دون ضوابط، ويرسّخ تدريجًا نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على تحميل الزبون كلفة ما يجب أن يكون من مسؤوليات صاحب العمل.
من خيار حر إلى التزام غير مُعلن
في المفهوم الاقتصادي، تُصنَّف الإكرامية (البقشيش) كمبلغ إضافي طوعي يُدفع تعبيرًا عن رضا الزبون عن الخدمة. وتختلف هذه الممارسة من بلد إلى آخر: ففي الولايات المتحدة تُعتبر الإكرامية جزءًا أساسيًا من دخل العاملين في قطاع الخدمات، بينما تُعدّ في اليابان إهانة، وفي أوروبا ممارسة محدودة وغير ملزمة.
أما في لبنان، فقد ارتبطت الإكرامية منذ عقود بعُرف شعبي لا أكثر. لكنها، ومن دون أي نقاش تشريعي أو تنظيمي، انتقلت تدريجًا إلى موقع الالتزام غير المعلن، بفعل الضغوط الاقتصادية وضعف الأجور وغياب التنظيم. ودعوة الرامي، وإن جاءت تحت عنوان الامتنان، فإنها رسخت هذا الانتقال: من مبادرة تقدير فردية إلى عنصر داعم للدخل، بل مكمل للراتب الضئيل أصلاً.
فجوة الأجور: من يدفع الثمن؟
يبلغ متوسط رواتب العاملين في المطاعم اليوم، بحسب مصادر “المدن” في القطاع، ما بين 400 دولار و600 دولار شهريًا، وقد تصل إلى 800 دولار في بعض المؤسسات. لكن هذا الدخل لا يُغطي غالبًا بدل النقل ولا يترافق مع ضمانات صحية أو اجتماعية، خصوصًا في حالات العمل الجزئي أو الموسمي. وفي غياب نقابات قوية أو جهات رقابية فاعلة، يبقى العامل هو الحلقة الأضعف: ساعات طويلة، ضغط نفسي دائم، وأجور لا تكاد تؤمّن كلفة المعيشة الأساسية.
في هذا السياق، يقول كريم، نادل في أحد مطاعم العاصمة، لـ”المدن”، أتقاضى 600 دولار شهريًا، لكنني أعتمد فعليًا على البقشيش. في المواسم أتمكّن من تغطية نفقاتي، أما في الفترات الهادئة، فلا يكفيني الراتب وحده. وصاحب العمل يكرر قوله لنا: الزبون يدفع إذا كانت خدمته جيّدة.” ويضيف: “الإكرامية أصبحت أشبه براتب ثانٍ، لكنها غير مضمونة، فنحن رهينة مزاج الزبائن.”
وبينما تُسجّل المطاعم نسب إشغال مرتفعة طوال العام، خصوصًا في موسم الصيف والعطل، تُسعَّر خدماتها بالدولار النقدي وفق منطق السوق الحرة، من دون أن يقابل ذلك أي التزام برفع الأجور أو تحسين بيئة العمل. حتى إن ممارسات التسعير تخضع لمزاجية المؤسسات، في ظل غياب شبه تام لأي دور رقابي رسمي، سواء من وزارة السياحة أو من مديرية حماية المستهلك.
البقشيش كتعويض… على حساب المستهلك
تكمن الإشكالية في أن هذا الخلل البنيوي لا يُعالج من منبعه، بل يُنقل إلى المستهلك. فبدل أن تتحمّل المؤسسات مسؤولياتها تجاه موظفيها، ويُعاد تنظيم القطاع على أسس عادلة وشفافة، يُطلب من الزبائن أن يسدّوا الفجوة بأموالهم، من خلال إكرامية لم تعد خيارًا حراً، بل واجبًا مُقنّعًا.
وما يزيد الطين بلّة أن إدارة البقشيش في غالبية المؤسسات لا تخضع لأي شفافية. ففي بعض المطاعم يُجمَع البقشيش في صندوق مشترك يُوزّع شهريًا، وفي أخرى يُقتطع منه جزء لمصلحة الإدارة. وفي حالات معينة، يُترك الأمر لمزاج صاحب العمل أو مدير الصالة. أي أن دخل العامل بات معلقًا على رضى الزبون، وعلى آلية توزيع قد لا تخضع لأي معايير واضحة أو عادلة.
ما يفاقم الالتباس هو أن التصريحات التي يدلي بها أركان النقابة نفسها تتصف بالتناقض. ففي حديث إلى “المدن”، شدّد نائب نقيب أصحاب المطاعم، خالد نزهة، على أن “الإكرامية تبقى خيارًا شخصيًا للزبون، ولا تُفرض كنسبة مئوية”. وهو تصريح يناقض ما أدلى به الرامي.
اقتصاد قائم على المستهلك؟
ما يطرحه هذا الواقع ليس فقط مسألة تقنية تتعلق بالبقشيش، بل هو نموذج اقتصادي كامل: اقتصاد تُخصخص فيه الأرباح، وتُعمَّم فيه الخسائر. فبينما ترتفع أسعار الخدمات السياحية، وتُسجّل أرباح موسمية عالية، لا تُترجم هذه العائدات تحسيناً في شروط العمل أو تثبيتاً للأجور، بل يُعاد تدويرها في اتجاهين: تضخيم الأرباح، وتوزيع الأكلاف على الزبائن.
هذه المقاربة لا يمكن اعتبارها جزءًا من اقتصاد منتج، كما يحلو لبعض المسؤولين وصف القطاع السياحي. فالإنتاج لا يقوم فقط على حجم المبيعات، بل على عدالة توزيع الأرباح، وضمان حقوق العاملين، وخلق منظومة عمل متماسكة. أما أن يُطلب من المستهلك أن يساهم في تمويل الرواتب، بحجة الامتنان، فهو تكريس استضعاف العاملين في قطاع المطاعم وحرمانهم من حقوقهم، يُحمِّل المواطن تبعات خلل لا دخل له فيه.



