رغم التقلبات الحادة في الاقتصاد العالمي، وتراجع أسعار النفط، لا تزال دول مجلس التعاون الخليجي تُظهر قدرا لافتا من الصمود الاقتصادي، مدعومة بأسس مالية قوية واحتياطيات خارجية ضخمة. ورغم أن التحديات قائمة، فإن دول الخليج تبدو في موقع يسمح لها بإدارة الضغوط الراهنة، دون الانزلاق إلى أزمة مالية.
تضمن الأسس الاقتصادية الكلية والمالية القوية التي تحظى بها دول الخليج مرونة المنطقة رغم حالة الغموض الاقتصادي السائدة عالميّا، بما في ذلك احتمال استمرار انخفاض أسعار النفط لفترة طويلة خلال الفترة القادمة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تحافظ دول مجلس التعاون الخليجي على نمو اقتصادي مستقر على مدى السنوات الخمس المقبلة، مدعومة بانخفاض التضخم وقوة الحساب الجاري والوضع المالي الخارجي.
وستواصل أسعار النفط ونسبة إنتاجه، خاصة من الدول المنتجة المتأرجحة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، دفع عجلة النمو، حتى مع سعي دول الخليج إلى بذل جهود تنويع اقتصادي طويلة الأمد بعيدا عن الموارد الطاقية. وقد وسّعت الإصلاحات الهيكلية دور القطاعات غير الهيدروكربونية، لكن الكويت وقطر والسعودية لا تزال معتمدة على صادرات النفط والغاز.
ومع ذلك، فقد أحرزت البحرين والإمارات تقدما أهمّ في التنويع الاقتصادي، حيث عززتا قطاعات السياحة والتمويل والخدمات اللوجستية والتصنيع، مما يقلل من تأثرهما بتقلبات أسعار النفط. ومع ذلك، لا تزال جميع دول مجلس التعاون الخليجي معرضة بشدة لتقلبات أسعار النفط، مقارنة بغيرها على المستوى الدولي، وخاصة خلال فترات الركود الاقتصادي طويلة الأمد.
ويحدّ انخفاض أسعار النفط من الإنفاق الحكومي والاستثمار، بما يؤدي إلى تباطؤ النمو في الأمدين القصير والمتوسط. ويتوقع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لدول الخليج بنسبة تتراوح بين 3.5 في المئة و4 في المئة خلال السنوات القليلة المقبلة. ويشترط هذا السيناريو غياب أي انخفاض كبير في إنتاج المحروقات أو أسعارها.
ويتفاوت دخل الفرد في دول مجلس التعاون الخليجي المُقاس بتعادل القدرة الشرائية، ويُعتبر مرتفعا للغاية في قطر (122ألف دولار) والإمارات العربية المتحدة (82 ألف دولار)، ومرتفعا في البحرين (68 ألف دولار) والمملكة العربية السعودية (62 ألف دولار)، بينما يبقى، أقل في الكويت (51 ألف دولار) وعُمان (42 ألف دولار). وللمقارنة، يبلغ دخل الفرد في الولايات المتحدة 75 ألف دولار.
ولا تزال السعودية أكبر اقتصاد في المنطقة، بناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 1.1 تريليون دولار، مقارنة بـ550 مليار دولار للإمارات، و220 مليار دولار لقطر، و100 مليار دولار لعُمان، و50 مليار دولار للبحرين، بينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الأميركي حوالي 30 تريليون دولار.
وتحافظ معظم دول مجلس التعاون الخليجي على استقرار اقتصادي ومالي قوي. وتعدّ البحرين الدولة الخليجية الوحيدة التي اعتبرتها وكالات التصنيف الائتماني الدولية دون الدرجة الاستثمارية. وأما عُمان، فهي في أدنى مستويات التصنيف ضمن فئة الدرجة الاستثمارية، بينما حصلت السعودية وقطر والإمارات على تصنيف “إيه” أو أعلى، مما يشير إلى انخفاض كبير في مخاطر التخلف عن السداد.
وجاء في تقرير نشره موقع ستراتفور أن دول مجلس التعاون الخليجي تحظى باحتياطيات مالية وخارجية تمكّنها من امتصاص الصدمات الناتجة عن المشهد الاقتصادي العالمي، على الرغم من أن انخفاضا حادا في أسعار النفط سيظل يضغط على الأوضاع المالية وميزان المدفوعات. وتجاوز متوسط سعر برميل النفط 60 دولارا هذا العام، ومن غير المرجح أن ينخفض إلى أقل من ذلك بكثير في غياب تباطؤ عالمي. وباستثناء السعودية والبحرين، من المتوقع أن تحقق جميع دول مجلس التعاون الخليجي فوائض مالية وخارجية في ظل سيناريوهات أسعار النفط الواقعية.
وقد عزّزت جميعها، باستثناء البحرين، صناديق ثروة سيادية كبيرة ومدخرات في الميزانية لمواجهة ضعف الأسعار لفترات طويلة. ويعني هذا أن أي عجز قصير الأجل سيكون محدودا بفضل الاحتياطيات أو الفوائض أو، في حالة السعودية، القدرة على تمويل عجز الميزانية الذي يفوق التوقعات في السوق.
وتحتفظ البنوك المركزية لدول مجلس التعاون الخليجي باحتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي، مما يسمح لها بالحفاظ على ربط عملاتها بالدولار. وعلاوة على ذلك، تتميز الأنظمة المصرفية في دول المجلس بمتانتها، ورأس مالها وسيولتها وربحيّتها العالية، مما يقلل من خطر تحولها إلى عبء على حكوماتها أو مصدرا لعدم استقرار اقتصادي كلي كبير.
وتعني الفوائض المالية بالنسبة لمعظم دول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء المملكة العربية السعودية والبحرين)، أن الانخفاض المعتدل في أسعار النفط سيكون سببا في تقليل الفوائض وإبطاء النمو قليلا دون أن يفرض تعديلات في السياسة المالية. وتبقى البحرين مقيدة ماليا، بينما يمكن للسعودية إدارة العجز من خلال الاقتراض. وإذا واجهت البحرين صعوبات، فيمكنها توقع الدعم المالي من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى لمنع زعزعة الاستقرار على نطاق أوسع.
وبالتالي، من غير المرجح حدوث أزمة مالية في المنطقة، على الرغم من أن انخفاض أسعار النفط المستمر من شأنه أن يزيد الضغط من أجل الإصلاحات الهيكلية على مستوى التنويع الاقتصادي والضرائب. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يبلغ متوسط أسعار النفط العالمية 69 دولارا للبرميل هذا العام، ثم ينخفض إلى 58 دولارا في 2026 بسبب ارتفاع المخزونات العالمية. وفي مطلع أغسطس، كان سعر خام برنت 67 دولارا.
وتُشكل القطاعات غير الهيدروكربونية بالفعل حصة كبيرة من اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي: 60-65 في المئة في الكويت وعُمان وقطر، و75 في السعودية والإمارات، وحوالي 85 في البحرين. وقد ربطت معظم دول مجلس التعاون الخليجي عملاتها بالدولار منذ السبعينات والثمانينات، ومن خلال مواءمتها مع سياسة أسعار الفائدة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، حيث ضمنت استقرار سعر الصرف وانخفاض التضخم.
ويُعتبر الدين العام منخفضا بشكل عام وقابلا للإدارة في جميع دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء البحرين، حيث من المتوقع أن يتجاوز 140 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد، بينما يظل أقل من 40 في المئة في جميع الدول الأخرى. ومن المتوقع أن تسجل السعودية والبحرين عجزا ماليا في الفترة ما بين عامي 2025 و2028، وأن تسجل المملكة وحدها عجزا متواضعا وقابلا للإدارة في الحساب الجاري.
وأظهرت السعودية، أكبر اقتصاد في المنطقة، مرونة رغم الصدمات الخارجية. ومن المتوقع أن تواصل على نفس المنوال، حتى لو أجبر انخفاض عائدات النفط الدولة على خفض مشاريع البنية التحتية. ونما اقتصادها غير النفطي بفضل الاستثمارات الحكومية المرتبطة برؤية 2030، إلى جانب انخفاض التضخم وانخفاض البطالة إلى مستوى قياسي.
ولا تزال الاحتياطيات الخارجية والمالية السعودية كبيرة رغم العجز. ومن شأن الانخفاض الحاد في أسعار النفط أن يؤثر سلبا على النمو نظرا لدورها كمنتج متأرجح وبفضل طاقتها الإنتاجية الاحتياطية الكبيرة، إلا أن السياسات المالية المعاكسة للدورة الاقتصادية والاستثمار المستدام من شأنهما تخفيف الأثر على النمو الاقتصادي.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل النمو الاقتصادي في المملكة العربية السعودية إلى 3.5 في المئة خلال 2025 و3.9 في المئة سنة 2026، مدعوما بقدرة المملكة على تنفيذ سياسات مالية معاكسة للدورة الاقتصادية والحفاظ على الإنفاق الاستثماري. ويتطلب تباطؤ النمو إلى مستويات 2024 البالغة 1.8 في المئة انخفاضا حادا في أسعار النفط، وهو أمر مستبعد. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تشهد المملكة معدل تضخم منخفض في مؤشر أسعار المستهلك يبلغ حوالي 2 في المئة وعجزا ماليا لا يتجاوز 4 في المئة بين عامي 2025 و2026.
ومن المتوقع أن ينمو الدين العام بشكل طفيف من 26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 إلى 33 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2026.
ومن المتوقع أن يبلغ متوسط عجز الحساب الجاري 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع تعويض نصفه تقريبا من خلال تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. كما أن مكانة السعودية كدائن دولي رئيسي تقلل بشكل أكبر من المخاطر المرتبطة بضعف ميزان المدفوعات أو الدين الخارجي. ويحتفظ مصرف المملكة المركزي بأكثر من 400 مليار دولار من الأصول الأجنبية الصافية، وهو ما يكفي للحفاظ على ربط عملتها بالدولار.
ويظل القطاع المصرفي مستقرا، مع رأس مال مرتفع وربحية عالية، وقروض متعثرة تقترب من أدنى مستوياتها في عقد من الزمان. وتتمتع الإمارات، ثاني أكبر اقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي، بآفاق اقتصادية قوية بفضل اقتصادها المتنوع وموقعها كمركز أعمال في المنطقة. وهي تستفيد بشكل كبير من تحسن الاستقرار الاقتصادي الإقليمي، بفضل هيكلها الاقتصادي الأكثر تنوعا وإمكانات نموها العالية مقارنة بدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
ومن المتوقع أن يرتفع نموها الاقتصادي إلى 4 في المئة هذا العام، مقارنة بـ3.8 في المئة العام الماضي، وأن يقفز أكثر إلى 5 في المئة العام المقبل. وسيبقى الميزان المالي سليما، بفائض يقارب 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما سيبقى إجمالي الدين الحكومي منخفضا عند 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالإضافة إلى ذلك، سيستمر تحسن وضع الاستثمار الدولي الصافي في الإمارات، مدعوما بفوائض كبيرة في الحساب الجاري تقارب 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وأكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني خلال شهر يونيو التصنيف الائتماني السيادي لدولة الإمارات عند إيه إيه-، مشيرة إلى نمو اقتصادي مرن، ودين حكومي معتدل، وأسعار نفط منخفضة عند مستوى التعادل يتراوح بين 45 و50 دولارا للبرميل.
وكانت التوقعات بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي الأصغر (قطر والكويت وعُمان والبحرين) أقل إيجابية بعض الشيء، لكنها لا تزال مقبولة. وسيبلغ متوسط التضخم 1-3 في المئة في جميع الدول الأربع في 2025 و2026، بينما سيبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 3-4 في المئة خلال 2025-2026.
ومن المتوقع أن تسجل قطر والكويت والبحرين نموا حقيقيا في الناتج المحلي الإجمالي يتراوح بين 1.9 في المئة و2.5 في 2025، قبل أن يتجاوز 3 في المئة في 2026. في الوقت نفسه، من المتوقع أن تشهد عُمان نموا حقيقيا في الناتج المحلي الإجمالي يتراوح بين 5 في المئة و6 بفضل زيادة صادرات الغاز، وخاصة خدمات النقل (تشمل الموانئ والشحن).



