مفارقة عجيبة شهدها مجلس الوزراء يوم أمس. ففي خطوة إصلاحية، أقرّ تعيين أعضاء الهيئة المنظّمة للاتصالات. وعلى النقيض تماماً، أقرّ عقداً رضائياً مع شركة ستارلينك المقدّمة لخدمات الانترنت عبر الأقمار الاصطناعية. استعجَلَ المجلس إقرار العقد برغم شوائبه القانونية. وبالتوازي مع ذلك، يناقض الاستعجال الهدف من وراء تفعيل الهيئة المفترض بها أن “تلعب دوراً محورياً في تطبيق القانون 431/2002، وضمان المنافسة العادلة، وحماية المستهلكين، وتطوير قطاع الاتصالات في لبنان”، وفق ما جاء في بيان للهيئة. وعليه، فإنّ التعاقد مع ستارلينك، مع ما يحمله من علامات استفهام قانونية وأمنية ومالية، يندرج في صلب مهام الهيئة. فلماذا الاستعجال، وهل من قطبة مخفية تستوجب تسريع تمريره في مجلس الوزراء والالتفاف على الهيئة؟
مخاوف وتناقضات
أُشبِعَ ملفّ التعاقد مع شركة ستارلينك تمحيصاً من مختلف جوانبه الاقتصادية والأمنية والمالية. إلاّ أنّ وزارة الاتصالات، ومن بعدها مجلس الوزراء، فضَّلا إقرار التعاقد رضائياً من دون الوصول إلى أجوبة نهائية من الجهات القانونية والأمنية، ليصبح الإقرار دليلاً إضافياً على صحّة المخاوف والمخالفات القانونية التي أشارت إليها لجنة الإعلام والاتصالات النيابية أكثر من مرة. (راجع المدن)
وما يزيد المخاوف، هو التناقضات التي وقعت فيها الوزارة ومجلس الوزراء، وهو ما يشي بأنّ إقرار العقد إقراراً متسرِّعاً يُخفي خلفه سبباً ما. ووفق التجربة اللبنانية، فإنّ الأسباب الكامنة وراء القرارات السياسية والإدارية، تحمل في طيّاتها منافع مالية لبعض النافذين. ولا يخرج ملف التعاقد مع ستارلينك، عن هذا العُرف.
أبرز التناقضات التي وقعت فيها الوزارة ومجلس الوزراء، هو استباق تفعيل عمل الهيئة المنظّمة للقطاع، وأيضاً التعاقد مع ستارلينك رضائياً. فاللبنانيون انتظروا تعيين الهيئات المنظّمة لتكون أداة إصلاحية للقطاع العام وخدمات الدولة، فجاء التعاقد مع ستارلينك قبل الانطلاق الفعلي لعمل الهيئة المنظّمة للاتصالات. علماً أنّ القانون 431/2002 يعطي الهيئة صلاحيات “ضمان شفافية الأسواق، تنظيم الامتيازات، إصدار التراخيص أو تعديلها أو تعليقها أو سحبها، والإشراف على تطبيق هذه الامتيازات والتراخيص”. كما أنّها تضمن “توفير خدمات اتصالات ذات جودة بأسعار معقولة للمواطنين”.
وبالتوازي مع ذلك، فإنّ الصفة الرضائية للعقد لم تنطبق مع الشروط القانونية للتعاقد الرضائي، التي تنصّ عليها المادة 46 من قانون الشراء العام، والتي تسمح بالتعاقد الرضائي لتأمين “حاجات الإدارة الأساسية والملحّة في الظروف الملحّة، ولا سيّما مع عدم إمكانية اعتماد الطرق العادية التنافسية”. وفي الوقت الراهن، لا حاجة استثنائية وملحة للاستعانة بخدمات ستارلينك. فلا حَدَثَ طارئاً أوقفَ خدمات الإنترنت الحالية، ولا عمل إدارات الدولة ومؤسساتها توقّف بانتظار مصدر مستعجَل للإنترنت.
علماً أنّ بحث ملفّ الاستعانة بخدمات ستارلينك ليس مستجداً، ففي 15 تشرين الثاني 2023، وخلال جلسة لجنة الإعلام والاتصال النيابية، أكّد وزير الاتصالات السابق جوني القرم، أنّ “مشروع استجرار الإنترنت عبر شبكة ستارلينك عمره سنة، وليس مرتبطاً فقط بخطّة الطوارئ الحكومية”؛ أيّ إنّه سابق للحرب الإسرائيلية على لبنان وتداعياتها على الإنترنت والاتصالات، وبذلك، فهو ليس أمراً مستعجلاً أو طارئاً لتنطبق عليه شروط العقد الرضائي.
تضارب المصالح
واقع الاستعجال وما يحمله من شبهات، يحيل إلى العلاقة التعاقدية بين ستارلينك وشركات مثل شركة Waves وشركة Mada Communication وشركة Connect Services Liberia LLC التي تشكِّل جزءاً من Mada، وهي شركات تقدّم خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتجيز لها ستارلينك توزيع الإنترنت منها.
واللافت للنظر، أنّ شركة Connect، ووفق ما تعرضه على موقعها الإلكتروني، لديها مكاتب في لبنان، إضافة إلى ليبيريا وجنوب السودان. ومقرّها الرئيس في مونروفيا. ولذلك، وقبل أية شبهات تطال أشخاصاً محدّدين، فإنّ تمرير العقد على نحوٍ رضائي وسريع لمصلحة شركة ستارلينك، ومن دون فتح المجال لمنافسة محتملة من شركات أخرى، يعني إعطاء ميزة مجانية لشركات رديفة في لبنان، من دون سواها، للاستفادة من خدمات ترافق التعاقد مع ستارلينك، مثل خدمات التوزيع وبيع المعدّات المطلوبة لاستقبال الانترنت وتقديم خدمات ميدانية، وما يرافق ذلك من خدمات تكنولوجية ذات صلة.
وعليه، يصبح لزاماً التساؤل عن مالكي هذه الشركات ومساهميها ورؤساء مجالس إداراتها، والبحث عن أي منافع قد يحصلون عليها بموجب العقد الرضائي مع ستارلينك، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر. والتساؤل يجب أن يطال ما إذا كان هناك سياسيون مستفيدون من هذه العلاقة التعاقدية. وهنا، يشير عضو لجنة الإعلام والاتصالات ياسين ياسين، في حديث لـ”المدن” إلى “وجود هواجس حول شركات يملكها وزير الاتصالات، فضلاً عن كونه عضو مجلس إدارة في شركات على علاقة مع شركة سبايس إكس، المالكة لستارلينك، وهو ما يشكِّل تضارباً للمصالح. إلاّ أنّ رئيس الحكومة نواف سلام أكّد أن الوزير استقال من مجلس الإدارة. لكن ذلك لا يكفي لنفي وجود المصلحة الاقتصادية مع ستارلينك”.
الرقابة مطلوبة
حتى اللحظة، مَرّ العقد الرضائي مرور الكرام. إلاّ أنّ الرقابة المسبقة لا زالت قادرة على تصويب المسار. فقانون الشراء العام يعطي الهيئة الحق بالرقابة. وأيضاً لديوان المحاسبة صلاحيات إجراء الرقابة اللاحقة. وفي السياق، تؤكّد مصادر في الديوان أنّ “ملف ستارلينك لم يُحَوَّل للديوان بطريقة رسمية من أية جهة”. ومع أنّ لجنة من الديوان حضرت اجتماعات لجنة الإعلام والاتصالات وتطرّقت إلى ملف ستارلينك ،”إلاّ أنّه لم يُبحث الموضوع بحثاً معمّقاً؛ بل اطّلعنا على نحوٍ عام على الملاحظات المتعلّقة بالملف”.
وتشير المصادر في حديث لـ”المدن”، إلى أنّه “عندما يُرسَل الملف رسمياً إلى الديوان، يمكن النظر بقانونيّته وإصدار توصية حوله. لكن إلى الآن لا يوجد ملف رسمي لدى الديوان، ولا يمكن إصدار حكم أو رأي غير مبني على وقائع ومستندات”.
بدوره، يرحّب ياسين بـ”شركة ستارلينك أو أية شركة عربية أو عالمية تدخل إلى السوق اللبنانية، شرط التوافق مع المقتضيات القانونية والدستورية. وهو ما يعاكس آلية التعاقد الحالية مع ستارلينك”. وأمام صيغة التعاقد، أشار ياسين إلى أنّ “التعاقد مع ستارلينك أو غيرها، يجب أن يكون تحت سقف الدستور وقانون الاتصالات وقانون الشراء العام والمراسيم الاشتراعية. وتمرير العقد مع ستارلينك بهذه العجلة، ضرب عرض الحائط كل القوانين”.
وأضاف ياسين أنّ “التعاقد مع الشركة لم يسبقه إجراء دراسة جدوى اقتصادية، تبيِّن انعكاسات هذا التعاقد على الاقتصاد اللبناني، وعلى القطاعين العام والخاص”. واستغرب ياسين “إصرار وزير الاتصالات على إعطاء الترخيص بهذه الطريقة، إضافة إلى سير مجلس الوزراء معه، من دون وجود صفة العجلة للموضوع”. وقال ياسين إنّ “ما حصل مخالف للدستور والقوانين، وسنطعن بالقرار، والطعن جاهز”.
انتفاء صفة الاستعجال والطوارىء، وتعيين أعضاء الهيئة المنظّمة للاتصالات، يعزّز التساؤلات حول وجود قطبة مخفية، خصوصاً أنّ وزارة الاتصالات أكّدت في بيانها في 2 أيلول، أنّها “تعمل على دراسة فرص إضافية مع مشغّلي أقمار اصطناعية آخرين، بهدف توفير بدائل متعددة، وضمان مرونة تشغيلية تؤمّن خدمة مستدامة، وتفادي أي اعتماد حصري على مشغّل واحد”. وهذا ما يعني أنّ الملف مفتوح، وأنّ هناك مشغّلين آخرين يمكن التعاقد معهم، فلماذا لم تُطلق مناقصة تضمن التنافس، وتحقّق أفضل الأسعار والخدمات؟ فهل هناك ارتباط بين استعجال إقرار التعاقد، واستفادة شركات وأشخاص معيَّنين من هذا التعاقد؟



