تشهد سوق النفط تقلبات مزمنة باتت تتحكم في ديناميكيات العرض والطلب، مدفوعة بعوامل جيوسياسية متلاحقة، وتغيرات في السياسات النقدية والطاقية. وفي هذا السياق المضطرب، باتت أسعار الخام تتحرك في نطاقات غير مستقرة، ما يفرز حالة من عدم اليقين تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي وصناع القرار في الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
تمر سوق النفط العالمية بتحول يبدو أنه سيكون دائمًا مع استعداد وكالة الطاقة الدولية لمراجعة سيناريو ذروة الطلب على النفط بشكل جذري.
وتقود آسيا نمو الطلب، بينما يتركز نمو العرض بشكل رئيسي في الأميركتين. وفي غضون ذلك، تلعب السياسة دورًا متزايدًا في تدفق النفط.
وسلط كلايد راسل، معلق الطاقة في رويترز، الضوء الأسبوع الماضي على اتجاهات العرض والطلب، وكتب أن معظم نمو العرض يأتي من دول غير أعضاء في أوبك في أميركا الشمالية والجنوبية، وخاصة كندا وغيانا والبرازيل والأرجنتين، بالإضافة إلى سورينام.
وساهمت الولايات المتحدة أيضًا في هذا النمو، لكن مساهمتها كانت على وشك أن تبدأ في الانخفاض، بينما من المتوقع أن تظل مساهمات الدول الأخرى قوية، كما أشار تقرير أرغوس الذي استشهد به راسل في مقاله.
في الواقع، ووفقًا لتوقعات أرغوس، من المتوقع أن تُمثل الأميركيتان 85 في المئة من نمو العرض بين عامي 2024 و2030، ولكن هناك تفصيل مهم وهو أن 85 في المئة هي نسبة نمو العرض من خارج أوبك، وليست إجمالي النمو العالمي.
وبمعنى آخر، يمكن لأوبك أيضًا توسيع إنتاجها إلى جانب الأميركيتين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وفق ما شرحت إيرينا سلاف في تقرير لموقع “أويل برايس” الأميركي.
وقالت: “لا توجد حالة تدفع فيها الأميركيتان سوق النفط العالمية إلى اعتماد أقل على أوبك وشركائها في أوبك+، حيث لا يزال هذا التكتل مسؤولاً عن ما يقرب من ثلثي العرض العالمي.”
ومع ذلك، فإن الإنتاج الإضافي من الأميركتين سيكون مفيدًا لمراكز الطلب في آسيا، بقيادة الهند، حيث قد يضيف الطلب على النفط الخام ما يصل إلى مليوني برميل يوميًا في السنوات الست المقبلة، وفقًا لأرغوس.
وفقًا لشركة ترافيغورا، ستتجاوز الهند الصين من حيث نمو الطلب على النفط هذا العام، باستثناء التخزين الإستراتيجي، الذي دأبت الصين على القيام به منذ بداية عام 2025.
وخارج الهند، من المتوقع أن يشهد الطلب على النفط في آسيا نموًا أضعف بكثير، بنحو 600 ألف برميل يوميًا، وفقًا لشركة أرغوس.
وسيكون هذا النمو أضعف من نمو الطلب في الشرق الأوسط، حيث تتوقع أرغوس ارتفاع الطلب على النفط بمقدار مليون برميل يوميًا بين عامي 2024 و2030.
وسيشهد باقي العالم نموًا متواضعًا في الطلب، بمقدار 600 ألف برميل يوميًا في أفريقيا، و500 ألف برميل يوميًا في أميركا اللاتينية.
85 في المئة من نمو المعروض العالمي للخام ستأتي من الأميركيتين بحلول نهاية هذا العقد
وبحسب سلاف فإن هذه مجرد توقعات. وقالت: “لقد فاجأت اتجاهات الطلب العالم سابقًا، وقد تُفاجئه مجددًا، كما تعلم وكالة الطاقة الدولية من تجربتها الأخيرة.”
وتظهر تلك الديناميكيات أنه قد لا يكون من الحكمة افتراض أن سياسات المناخ المُعلنة ستُصبح سياسات فعلية ومُطبقة، ناهيك عن قوى السوق التي تؤثر على الآمال والأحلام المتعلقة بكهربة قطاع النقل.
وبغض النظر عن التوقعات والتوقعات، ستعتمد اتجاهات الطلب على النفط بشكل كبير على التطورات الاقتصادية في أسواق النفط الإقليمية، التي تخضع دائمًا للتغيير نتيجةً للوضع الراهن، وهنا يأتي دور الجانب السياسي لتجارة النفط.
ويُعدّ الاتحاد الأوروبي وروسيا أحدث وأوضح مثالين على كيفية تأثير السياسة على إعادة توجيه تدفقات الطاقة. ومع إعلان التكتل عن عزمه على التخلص التدريجي من واردات الطاقة الروسية، اتجهت الطاقة الروسية شرقًا.
وتُوّجت هذه العملية إلى إعادة التوجيه بالاتفاق الأخير على بناء خط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا 2” الذي سيُصدر روسيا إلى الصين نفس كمية الغاز الطبيعي التي كانت ستُصدرها إلى ألمانيا عبر خطي أنابيب “نورد ستريم” التوأم.
كما يتجه النفط الروسي شرقًا، وبالأخص إلى الهند، مُحرك الطلب العالمي المُستقبلي. كما حصل مؤخرًا، وتسبب هذا في مشاكل للهند.
ويرفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الوضع، ويعتقد أن الإضرار بصادرات النفط الروسية سيؤدي إلى إنهاء أسرع للأعمال العدائية في أوكرانيا.
ووفقًا لراسل، يُعد هذا مثالًا على كيفية تشابك أسواق النفط مع التطورات السياسية، حيث تضطر الهند في هذه الحالة إلى الاختيار بين التعامل مع الولايات المتحدة أو روسيا.
وذكرت صحيفة فاينانشال تايمز في تقرير الأحد الماضي أن ترامب سيحث مجموعة السبع على فرض رسوم جمركية على الهند والصين في محاولة لتقليص شهيتهما للنفط الروسي.
وأكدت الصحيفة أن ذلك يأتي بعد أن تبين أن الاتحاد الأوروبي متردد في استخدام الرسوم الجمركية لهذا الغرض، خوفًا من أن تنعكس هذه الخطوة سلبًا.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يؤيد العقوبات كوسيلة لفرض إرادته على القوى الآسيوية الكبرى، حيث أشار تقرير فاينانشال تايمز إلى أن القيادة في بروكسل تناقش فرض عقوبات على الصين لشرائها النفط والغاز الطبيعي الروسيين.
ولكن يبقى رؤية ما إذا كان هذا يمكن أن يتحول إلى مخطط للإدارات الأميركية المستقبلية، وفق سلاف.
ومن الواضح أن السياسة وتجارة النفط أصبحتا مترابطتين بشكل وثيق على نحو متزايد، وهو ما من شأنه أن يضيف حتماً جرعة أكبر من التقلبات إلى أسواق النفط، وأن التقلبات الجديدة سوف تبقى مع تلك الأسواق.



