يتحفنا المعنيّون في كل فترة بسَيلٍ من «الاقتراحات» و»الحلول» و»القوانين المرتقبة»، التي يُفترض أنّها تمهّد الطريق لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي، وحلّ أزمة الودائع، وعودة الحياة إلى الدورة الاقتصادية. لكن ما يجري في الواقع لا يتعدّى كونه محاولات تجميلية مبتورة، تتجنّب التطرّق إلى جوهر الأزمة، وتتجاهل عن عمدٍ الشرط الأول لأي معالجة جدّية أي: فتح دفاتر المصارف والمركزي لكشف الأرقام.
فكيف يمكن ترميم الثقة من دون مكاشفة؟ وكيف يمكن أن يطمئنّ الناس إلى ودائعهم في ظل استمرار التعتيم على ما جرى في تشرين الأول 2019، حين انفجرت الكارثة المالية؟ لا خارطة طريق واقعية ممكنة من دون مصارحة كاملة.
والمفارقة أنّ البعض يُصرّحون، من وقت إلى آخر، بأنّهم «يملكون الحقيقة» ويعرفون تماماً ما جرى في الكواليس المالية. وفقاً لتصريحاتهم، يدّعون أنّهم يُدركون بدقّة كَم كانت تملك كلّ مؤسسة مصرفية من ودائع لحظة وقوع الأزمة، وكَم من هذه الأموال وُظِّف في الخارج، وكَم أخذ المصرف المركزي، وكَم تبقّى فعلياً داخل المصارف عند انفجار الأزمة في تشرين 2019. إذا كانوا يعرفون ذلك، فلماذا لا ينشرون ما يعرفونه، وكيف حصلوا على هذه المعلومات لنتأكّد من صحتها؟ وممّا لا شك فيه، أنّ جزءاً من الودائع بقيَ داخل المصارف بعد انفجار الأزمة في تشرين 2019، لكنّ هذا الجزء لم يَسلَم من التآكل المنهجي على مدى السنوات الماضية. ولتبسيط الصورة، يمكن اعتماد المثال التالي: مَن كان يملك حساباً بقيمة 100 ألف دولار، استولى المصرف المركزي على جزء منها – لنفترض 40 ألف دولار… إذاً، ما تبقّى داخل المصرف نفسه هو 60 ألف دولار. لكنّ هذه الـ60 ألفاً، بدلاً من أن تُصان، استُنزِفت تدريجاً عبر إجراءات ملتوية، هكذا، تقلّصت القيمة من 60 الف دولار إلى 35 ألف دولار، وربما أقل، خلال 6 سنوات.
الأسوأ من ذلك، أنّ المصارف استعملت القيمة المتبقية من الودائع على مدى 6 سنوات وكأنّها أموالها الخاصة. لقد تحوّلت المصارف إلى سلطة مالية فوق القانون، إذ احتجزت أموال المودعين 6 سنوات متواصلة، في خرق فجّ لكل القوانين والأنظمة التي ترعى العمل المصرفي. تصرّفت وكأنّها شركات خاصة لا تخضع إلى رقابة ولا مساءلة، مستغلّةً غياب الدولة وضعف مؤسساتها، لتستعمل ودائع الناس كأداة استثمارية خاصة، وتحقق من خلالها أرباحاً غير مشروعة على حساب حقوق المودعين وأمنهم الاجتماعي والاقتصادي.
كان من المفترض، فور وقوع الأزمة، أن تبادر المصارف إلى إعادة ما تبقّى لديها من ودائع بشكل فوري وفقاً لنسب واضحة، أي أن تُحتسب الوديعة بعد حسم النسبة التي استولى عليها مصرف لبنان في كل مصرف. وكان يجدر بكل مصرف أن يصارح مودعيه ويقول لهم لقد أخذ المصرف المركزي مني نسبة 40% مثلاً، فوديعتك البالغة 100 ألف دولار سأعيدها إليك 60 ألف دولار، والوديعة البالغة مليون دولار سأعيدها 600 ألف دولار، وهكذا كل مصرف على حدة يُعيد لمودعيه النسبة المتبقية، وخصوصاً أنّ هذه النسب تختلف بين مصرف وآخر، فهناك مصارف تورّطت أكثر من غيرها مع المصرف المركزي. وبعد إرجاع ما تبقّى، كان يجب أن يتوحّد موقف المصارف مع المودعين في المطالبة برفع دعوى مشتركة على المصرف المركزي والحكومة، بغية استعادة الجزء الذي جرى الإستيلاء عليه.
لو دُفِعت الودائع المتبقية في حينها وحالاً، لكانت المصارف حافظت على ثقة المودعين بها، ولكانت جنّبت المودعين مآسي اجتماعية وإنسانية كثيرة واجهها هؤلاء خلال الست سنوات، من عدم القدرة على تأمين العيش الكريم والطبابة والتعليم لأولادهم، ولكانوا جنّبوا المودعين الكثير من التعتير لو قاموا بهذه الخطوة المنطقية.
غير أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، إذ لم تُقدِم المصارف على أي مصارحة شاملة وشفافة مع المودعين حول ما جرى فعلياً. وبناءً عليه، فإنّ المطلوب اليوم، وقبل اللجوء إلى أي حلول ترقيعية أو تجميلية، أن تبادر المصارف إلى إعادة قيمة الودائع التي بقِيَت بحوزتها عند اندلاع الأزمة، مضافاً إليها الفوائد المستحقة عن السنوات الست الماضية، وذلك كخطوة أولى أساسية على طريق استعادة الثقة بالقطاع المصرفي. طبعاً شرط أن يتمّ ذلك بشفافية مطلقة بعد فتح دفاتر المصارف والمركزي.
أخيراً، بعد كشف الحقيقة كاملة، ومهما بلغت فداحتها، تبقى هناك حلول ممكنة، كما تبقى هناك عواقب لا بُدّ من مواجهتها. غير أنّ الشرط الأساس لأي مسار إنقاذي هو المحاسبة الجدّية لكل مَن تورّط في هذه المنظومة المالية التي اتسمت بطابع البونزي. ومن هنا، فإنّ فتح الدفاتر ومقارنة الحسابات بشكل شفاف، هو المدخل الوحيد لتحديد المسؤوليات بدقة، ووضع حدّ للتضليل، والانطلاق نحو إصلاح حقيقي، يُعيد الثقة بالقطاع المالي والإقتصاد الوطني.



