أرباح ضخمة: جنون الذهب يُداوي ميزانيّة مصرف لبنان

على المستوى الدولي، ثمّة اختلالات اقتصاديّة واضحة المعالم. ومن نتائجها، الارتفاعات السريعة والقياسيّة في أسعار الذهب، بوصفه ملاذًا آمنًا في فترات التأزّم المالي. وهنا، تتعدّد الإشارات المُقلقة: من الإغلاق الحكومي في واشنطن، وتزايد الشكوك في الاستقرار المؤسّساتي هناك، إلى حروب ترامب التجاريّة، والقلق بشأن استدامة الدين العام الأميركي، وصولًا إلى الهواجس المرتبطة بمكانة الدولار كعملة احتياط وتداول، بل ومستقبل النظام العالمي الذي ساد منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية. في خلاصة الأمر، باتت أسعار الذهب اليوم أعلى بنسبة 9 بالمئة قياسًا بقيمتها قبل شهر، وبنسبة 46 بالمئة قياسًا بقيمتها قبل سنة.

غير أنّ الظروف شاءت أن تؤدّي كل هذه المؤشّرات المقلقة، إلى نتائج جيّدة في لبنان، ولسبب معروف: امتلاك البلاد لاحتياطات ضخمة من المعدن الأصفر. ومع نشر بيان الوضع المالي لمصرف لبنان كل 15 يومًا، بات من الطبيعي أن نسمع بالأرباح الدفتريّة الضخمة التي يحقّقها المصرف، بفعل زيادة قيمة هذه الاحتياطات. التشريعات الموجودة لا تسمح باستعمال هذه الاحتياطات، لحسن الحظ، ما يمنع تبديدها كما جرى مع احتياطات العملات الأجنبيّة قبل انتهاء ولاية سلامة. لكنّ ارتفاع قيمة الذهب، في ميزانيّة مصرف لبنان، بات يقلّص تدريجيًا حجم الفجوة الموجودة هناك. وهذا التغيّر يُحسّن علامات الملاءة في المصرف المركزي، أي كفاية موجوداته الفعليّة نسبة للمطلوبات.

أرباح شهر أيلول

في مطلع هذا الشهر، نشر مصرف لبنان بيان الوضع المالي الخاص به حتّى أواخر شهر أيلول. وبحلول نهاية الشهر، كانت قيمة احتياطات الذهب في مصرف لبنان قد تجاوزت 35.17 مليار دولار أميركي، مقارنة بمستوى لا يتجاوز 33.6 مليار دولار أميركي في منتصف الشهر، و31.47 في بدايته.

ما يمكن استنتاجه هنا، هو أنّ مصرف لبنان حقّق أرباحًا بقيمة 1.57 مليار دولار أميركي خلال النصف الثاني من شهر أيلول، بعدما حقّق ربحًا أكبر بقيمة 2.13 مليار دولار أميركي خلال النصف الأوّل من الشهر نفسه. وفي النتيجة، بات حجم الأرباح الإجماليّة التي تم تحقيقها خلال شهر أيلول الماضي، بفعل الزيادات في قيمة احتياطات الذهب في مصرف لبنان، نحو 3.7 مليار دولار أميركي. وبالنسبة المئويّة، يمكن القول أنّ قيمة احتياطات الذهب في مصرف لبنان قد سجّلت زيادة بنسبة 10.5% خلال هذا الشهر، وهو ما يقترب من نسبة الزيادة في سعر الذهب عالميًا.

على أساس سنوي، يمكن التذكير بأنّ قيمة الاحتياطات لم تكن تتجاوز خلال الفترة المماثلة من العام الماضي مستوى 24.46 مليار دولار أميركي، ما يعني أنّ قيمة ذهب مصرف لبنان سجّلت زيادة ضخمة قيمتها 10.71 مليار دولار أميركي خلال فترة لا تتجاوز السنة الواحدة، ما يعكس ارتفاعًا بنسبة 44% في قيمة هذه الاحتياطات. وهنا أيضًا، تقترب نسبة هذه الزيادة من نسبة الارتفاع في قيمة الذهب في الأسواق عالميًا.

قبل ست سنوات بالضبط، أي قبيل حصول الانهيار المصرفي، كانت قيمة احتياطات الذهب نفسها تقتصر على نحو 13.72 مليار دولار أميركي، ما يشكّل أقل من 39% من قيمتها الحاليّة. أو يمكن القول أنّ قيمة احتياطات الذهب الحاليّة أصبحت تقارب 2.56 مرّات قيمتها قبل ست سنوات، بزيادة قدرها 21.45 مليار دولار أميركي.

وعلى مدى سنوات الأزمة، كانت قيمة احتياطات الذهب في مصرف لبنان ترتفع تدريجيًا كل سنة، لتبلغ في أواخر شهر أيلول من كل سنة المستويات التالية: 13.72 مليار دولار سنة 2019، 17.36 مليار دولار سنة 2020، 15.96 مليار دولار سنة 2021، 15.42 مليار دولار سنة 2022، 17.26 مليار دولار سنة 2023، 24.46 مليار دولار سنة 2024، وصولاً إلى 35.17 مليار دولار هذه السنة.

سائر بنود الميزانيّة

اللافت للنظر في أواخر شهر أيلول، هو أن قيمة احتياطات العملات الأجنبيّة لم تسجّل ارتفاعًا في النصف الثاني من الشهر، بل سجّلت انخفاضًا بقيمة 77.21 مليون دولار أميركي، لتبلغ في نهاية الشهر حدود 11.75 مليار دولار أميركي. وكان واضحًا أنّ هذا الانخفاض لم يرتبط باستخدام الدولة لأموالها المحتجزة في المصرف المركزي، والتي استمرّت بالارتفاع خلال النصف الثاني من شهر أيلول، مسجّلةً زيادة بقيمة 37.57 مليون دولار أميركي، لتصبح قيمة ودائع القطاع العام في مصرف لبنان نحو 8.04 مليار دولار أميركي. أمّا ودائع القطاع المالي في مصرف لبنان، وضمنها توظيفات المصارف هناك، فظلّت عند مستويات تتجاوز 84.35 مليار دولار أميركي، ما يشكّل نحو 89% من قيمة الميزانيّة بأسرها.

في جميع الحالات، يبقى أهم ما في الموضوع السؤال عن كيفيّة حماية ثروة استراتيجيّة مثل احتياطات الذهب، في ظل ما يُشاع عن “اهتمام” شركات أميركيّة بتوريط هذه الثروة في عقود غامضة تشمل مشتقات ماليّة معقّدة. والحديث عن مغامرات من هذا النوع، يتوازى مع تحضير قانون الفجوة الماليّة، الذي يفترض أن ينص على آليّات توزيع الخسائر، ما يمكن أن يُستخدم كمبرّر للمغامرة بذهب مصرف لبنان. المشكلة الأهم، هي أنّ الحديث أن استخدام الذهب، يأتي في مرحلة الخوف من مستقبل الدولار وإمكانيّة اهتزاز موقعه عالميًا، ما يطرح السؤال عن جدوى التفريط بهذه الثروة في هذا الظرف بالذات.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالجنوب يعيد رسم خريطته بعد الحرب: فرزٌ عقاري وخللٌ ديموغرافي
المقالة القادمةنصار يبرّر: مخالفة القانون لحماية لبنان!