سجّلت أسعار سندات اليوروبوند اللبنانيّة، أي سندات الدين المتداولة بالعملات الأجنبيّة، تراجعًا مفاجئًا خلال الأيام الماضية، ليصل سعر السند إلى قرابة 22 سنتًا للدولار في مطلع هذا الأسبوع، مقارنة بـ 24 سنتًا للدولار في بدايات الأسبوع الماضي. وبذلك، تكون الأسعار قد سجّلت تراجعًا ملحوظًا بنسبة 8%، بعد التفاؤل الذي ساد خلال الأشهر الماضية، والذي ساهم برفع أسعار هذه السندات إلى أعلى مستوياتها منذ تخلّف لبنان عن سداد ديونه السياديّة الدولاريّة عام 2020. ومن المعلوم أنّ هذا السعر يعكس توازنات العرض والطلب على هذه السندات في الأسواق الدوليّة، ما يجعله مؤشّرًا يدل على توقّعات الصناديق الاستثماريّة الأجنبيّة بخصوص الوضع الاقتصادي اللبناني.
خلفيّة هبوط الأسعار
لا يمكن الفصل ما بين ما يجري في السوق من جهة، والمستجدات المرتبطة بمسار التصحيح المالي، وبالأخص الشق المرتبط بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فمن الناحية العمليّة، من المنتظر أن يستند لبنان إلى البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد، كورقة قوّة وثقة، قبل الاتجاه للتفاوض مع الدائنين الدوليين وحملة السندات، ومن ثم التوصّل لاتفاق لإعادة هيكلة الدين العام وفق استحقاقات وفوائد جديدة. الاقتراب من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يعني الاقتراب من الحل المالي الشامل، ومنه الشق المتعلّق بالديون السياديّة. وهذا ما يرصده الدائنون جيّداً اليوم.
للدلالة على أهميّة برنامج الصندوق، بالنسبة لحملة السندات، يمكن العودة لتقديرات مصرف جي. بي. مورغان، الذي تفاءل سابقاً بتنفيذ بعض الإصلاحات المتّفق عليها مع صندوق، متوقّعًا أن يصل سعر سندات اليوروبوند إلى 24 سنتًا للدولار بنهاية العام (وكان السعر قد لامس هذا المستوى بالفعل الأسبوع الماضي). ورأى المصرف أن سعر السندات يمكن أن يقترب من حدود 27-28 سنتًا للدولار في مرحلة لاحقة من العام المقبل، في حال استكمال تنفيذ الإصلاحات وتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي. والتقرير نفسه، بالغ أيضًا في التفاؤل بهذه التطوّرات، عند الإشارة إلى أنّ الدائنين يمكن أن يستردوا 35% من قيمة الديون، أو 35 سنتًا للدولار، بعد إعادة جدولة الديون لاحقًا.
غير أن التفاؤل هذا عكسته بعض تطوّرات الأسابيع الماضية، وهو ما أسهم بالهبوط النسبي في أسعار السندات، ومنها خلاصات الاجتماعات السنويّة لصندوق النقد والبنك الدولي التي انعقدت في واشنطن، والتي بيّنت وجود بعض العقبات التي لا تزال تعرقل الوصول إلى اتفاق مع الصندوق. وعلى نحوٍ أدق، بدا أن ثمّة تباينات لم تتم معالجتها بعد في الداخل اللبناني، بخصوص المقاربات التي يجب اعتمادها في قانون الفجوة الماليّة، كما بدا أن هناك فجوة ما بين شروط الصندوق وما يمكن تنفيذه محليًا في ظل شبكات المصالح المؤثّرة داخل المجلس النيابي.
وفي وقتٍ سابق، كان قد تبيّن أن للصندوق بعض الملاحظات على خطوات اعتقد البعض أنّها حققت شروطه. فقانون إصلاح أوضاع المصارف تضمّنت ثغرات عديدة برأي الصندوق، وهو ما دفع الحكومة إلى إعداد مشروع جديد لتعديل هذا القانون. ومن غير الواضح ما إذا كان المجلس النيابي سيقر هذه التعديلات كما هي، وخصوصًا تلك التي تحد من تأثير المصارف في عمليّة إعادة هيكلة القطاع. كما وضع الصندوق بعض الملاحظات على مشروع قانون الموازنة الذي جرى إرساله إلى المجلس النيابي، ولم يتّضح بعد ما إذا المجلس سيتمكّن من تقويم الموازنة بناءً على هذه الملاحظات.
إلى جانب هذا المشهد، كانت التطوّرات الأمنيّة تلقي بظلالها على توقّعات الأسواق في الخارج، وبالأخص مع تصاعد المخاوف من إمكانيّة عودة التصعيد واستئناف الحرب بصورتها الموسّعة. ومن البديهي أن يحول أي تصعيد من هذا النوع دون استكمال العمل على مسار الإنقاذ المالي، بل من المتوقّع أن يزيد هذا السيناريو من الأعباء التي سيضطر لبنان للتعامل معها في المستقبل.
تأثير حجم الناتج المحلّي
إدارة الإحصاء المركزي كانت قد أصدرت خلال هذا الشهر تقريرًا أعاد النظر بحجم الناتج المحلّي الإجمالي، لترفعه إلى نحو 31.6 مليار دولار أميركي خلال العام الماضي، في مقابل تقديرات صندوق النقد التي تقف عند حدود 24 مليار دولار. وخلال الفترة المقبلة، ستمثّل هذه الأرقام الجديدة تغييرًا جذريًا في قواعد اللعبة. فحجم الدين العام، الذي يمكن الحفاظ عليه بعد إعادة هيكلة السندات، سيعتمد على معايير تحدّد مدى استدامة هذا الدين، عند قياسه بالنسبة لحجم الناتج المحلّي. وزيادة التقديرات بالنسبة لحجم الناتج المحلّي، ستعني زيادة حجم الدين الذي يمكن تحمّله لاحقًا، بعد إعادة الهيكلة.
وأصبح من الواضح الآن أن الدين السيادي الذي سيتبقى في المستقبل، سيكون مقسومًا بين كتلتين: سندات اليوروبوند التي ستخضع لعمليّة إعادة هيكلة، وما سيتبقى من الدين العام الذي يطالب به مصرف لبنان لمصلحته، والذي تشكك وزارة الماليّة في صحّته. ومن المرتقب أن يتم البت بهذا الملف بحسب نتائج التدقيق الذي ستجريه لجنة تم تشكيلها لهذه الغاية، بالاتفاق بين وزارة الماليّة والمصرف المركزي. وبهذا الشكل، سيتم توزيع الدين العام المستقبلي ما حملة السندات ومصرف لبنان. أمّا نسبة الدين القصوى التي يمكن تحمّلها، من الناتج المحلّي، فستخضع للتفاوض مع صندوق النقد الدولي.
أمام هذا المشهد المعقّد، سيحتاج لبنان إلى المرور بمسار طويل من المحادثات مع حملة السندات، قبل الاتفاق على شروط إعادة هيكلة الديون. مع الإشارة إلى أنّ لبنان فضّل طوال الأشهر الماضية التريّث، وعدم بدء هذه المحادثات، بانتظار حصول المزيد من الانخفاض في معدلات الفوائد في الخارج، وهو ما يسمح بإعادة جدولة السندات بكلفة أقل. غير أن المشكلة تبقى تراكم الفوائد على الديون غير المسدّدة، وهو ما يزيد من حجم الدين الإجمالي الذي سيتم التفاوض عليه لاحقًا.



