سوريا تُعيد رسم خريطة المهن المالية: تحديثٌ أم إعادة هيكلة؟

تتجه وزارة المالية في سوريا نحو إعادة هيكلة شاملة للمهن المالية عبر مشروع تنظيمي جديد يشمل ست مهن أساسية، في خطوة تُعد جزءاً من مساعي الحكومة لتحديث الإطار المالي وتعزيز الشفافية والمساءلة. غير أن نجاح المشروع، وفق خبراء، سيتوقف على مدى استقلاليته وقدرته على التوافق مع المعايير الدولية للحوكمة.

ملامح المشروع ومراحله

في هذا السياق، أنهت اللجنة الوطنية لتطوير وتنظيم المهن المالية في وزارة المالية إعداد مشروع قانون جديد يهدف إلى تنظيم ست مهن رئيسة هي: المدقق الداخلي، مدير المخاطر، المحاسب القانوني، المقيّم المالي، المحلل المالي، واستشاري الضرائب، استناداً إلى المعايير المهنية المعتمدة عالمياً.

ويشير وزير المالية محمد يسر برنية إلى أن المشروع يأتي في إطار خطة أوسع لإعادة بناء البنية المؤسسية للقطاع المالي، موضحاً أنه يتضمن مراجعة مهام مجلس المحاسبة والتدقيق، مع اقتراح تعديل اسمه إلى “مجلس الحوكمة والمحاسبة والمهن المالية”، بما يتناسب مع متطلبات المرحلة المقبلة.

ويؤكد برنية أن الوزارة ستمنح فترة انتقالية قبل تطبيق النظام الجديد، على أن يُمنع لاحقاً مزاولة أي من هذه المهن من دون الحصول على ترخيص رسمي واجتياز امتحانات مهنية. كما سيتوجب على العاملين الالتزام ببرامج تدريب سنوية لتجديد الكفاءة المهنية وضمان التزامهم بالمعايير الحديثة.

كما فتحت الوزارة الباب أمام المهنيين والمهتمين لإبداء الملاحظات على المشروع عبر البريد الإلكتروني المخصص، مشددةً على أن هذه الخطوة تمثّل “محطة أساسية في تطوير البنية التحتية للقطاع المالي، ورفع كفاءته في مواجهة تحديات المرحلة المقبلة”.

المهن المالية في سوريا: حضور قديم بصيغة جديدة

الخبير الاقتصادي وعضو التحالف السوري الديمقراطي محمد علبي يوضح في حديثه لـِ “المدن” أن المهن المالية ليست طارئة على البيئة السورية؛ إذ كانت موجودة قبل عام 2011، وإن بدرجات متفاوتة من التنظيم.

فمهنة المحاسب القانوني وفقاً لـِ علبي، تُعدّ الأقدم والأكثر تنظيماً بموجب القانون رقم 33 للعام 2009، في حين ظهرت مهن مثل المدقق الداخلي ومدير المخاطر داخل المؤسسات المالية بناءً على تعليمات مصرف سورية المركزي، من دون أن تمتلك إطاراً قانونياً مستقلاً. أما مهن المقيّم المالي والمحلل المالي فقد تطورت مع إنشاء هيئة الأوراق والأسواق المالية في العام 2005، في حين ما تزال مهنة استشاري الضرائب غير منظمة على نحوٍ واضح حتى اليوم.

خطوة إصلاحية… ولكن

يرى علبي أن المشروع الجديد يعكس نوايا إصلاحية واضحة من جانب الحكومة؛ إذ يسعى إلى توحيد المعايير المهنية وربط الممارسة بالترخيص والتدريب، وهذا ما قد يساهم في ضبط الأداء المالي، والحد من الممارسات غير المنضبطة التي أضعفت ثقة المستثمرين.

لكنّه في الوقت نفسه يطرح تساؤلات حول مدى توافق المشروع مع المعايير الدولية للحوكمة المالية، ولا سيما تلك الصادرة عن الاتحاد الدولي للمحاسبين (IFAC) والمنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية (IOSCO)، محذراً من أن غياب هذا التوافق قد يحدّ من جدواه الفعلية.

الفجوة بين الطموح والمعايير

تشدد المعايير الدولية على ضرورة استقلال الهيئات المهنية عن السلطة التنفيذية، وهو ما لا يبدو متحققاً في المشروع السوري الذي يبقى تحت إشراف وزارة المالية. ويرى علبي أن هذه التبعية “تضعف من صدقيّة الخطوة، وتقلل من فرص الاعتراف الدولي بالشهادات المهنية التي سيمنحها المجلس الجديد”.

ويضيف أن المشروع بالرغم من طابعه الإصلاحي يعاني من “فجوة مؤسسية ومعيارية”؛ إذ يتحرك ضمن بيئة لا تزال تفتقر إلى الاستقلالية والشفافية الكافيتين لقيام قطاع مالي احترافي قادر على استقطاب الاستثمارات.

تحديات التطبيق والحوكمة

لا يبتعد هذا المشروع عن غيره من القوانين المالية المطروحة أخيراً، مثل قانون المالية العامة وقانوني ضريبة الدخل والمبيعات، والتي تأتي ضمن مسار إصلاح مالي أوسع. غير أن غياب المشاركة النقابية والبرلمانية يجعل هذه القوانين أقرب إلى تحديث إداري محدود، لا إلى إصلاح هيكلي حقيقي منسجم مع متطلبات الشفافية والمساءلة، وفق علبي.

الشفافية ليست خياراً وترفاً

تبقى المسألة الجوهرية في النهاية هي مدى قدرة الحكومة على تحويل هذه الخطوات إلى ممارسات عملية. فالقوانين وحدها لا تكفي لبناء الثقة ما لم تُطبّق بمعزل عن الضغوط السياسية والإدارية، وبما ينسجم مع المعايير الدولية للمساءلة والحوكمة.

ويختم علبي بالقول إن “تجاهل هذه المعايير يعني عملياً بقاء القطاع المالي في دائرة الانغلاق والعشوائية، في حين أنَّ تطبيقها بجدية يمكن أن يشكل مدخلاً أساسياً لاستعادة الثقة وجذب الاستثمارات التي يحتاجها الاقتصاد السوري أكثر من أي وقت مضى”.

مصدرالمدن - رهام علي
المادة السابقةهل الصناعة اللبنانية تحويلية أم صناعة ثقيلة؟
المقالة القادمةالصدي: ساعات الكهرباء ستصل إلى 10 يومياً في الشتاء