أبعد من عملية صرف موظفين… بنك MED ينهار من الداخل

لا يمكن عزل ممارسات بنك البحر المتوسط (BankMed) اليوم تجاه موظفيه عن كل ما يحصل في كواليس إدارته وفروعه وعلى طاولة القضاء. فعمليتا صرف جماعي من هنا وبيع عقار من هناك لم تعد مجرّد إعادة هيكلة داخلية أو تقليص للأكلاف التشغيلية، بل انهيار تدريجي من الداخل. وقد أطاحت العديد من ممارسات المصرف بما تبقى من سمعته ومكانته التي كان يحتلها في القطاع المصرفي، بعدما تحوّل إلى نموذج فاضح لفشل الإدارة وتراكم التجاوزات.

صرف جماعي وقضم حقوق

قرر بنك ميد خلال الأيام الأخيرة، صرف أكثر من 150 موظفاً دفعة واحدة وإقفال 9 فروع إضافية وقد أبلغهم بذلك، في خطوة تأتي استكمالاً لمسار بدأ منذ عام 2019 حين كان عدد موظفي المصرف نحو 2800 موظف قبل أن يتم يقلص عددهم إلى نحو 500 موظف في النصف الاول من عام 2025 ثم إلى اقل من 350 موظفا نهاية الشهر الحالي، فيما غدت المكاتب في المبنى الرئيسي شبه فارغة. ومن أصل 72 فرعاً للمصرف كانت تغطي لبنان عام 2019، لم يبق سوى 30 فرعاً حالياً 9 منها ستغلق نهاية الشهر الجاري لتصبح 21 فرعاً فقط مع مطلع كانون الأول المقبل. ولم تكتف الإدارة بتقليص عدد العاملين والفروع، بل عمدت إلى تأجير أربعة طوابق من مبنى الإدارة العامة، وتستعد لتأجير الطابق الخامس.

ومن داخل المصرف، يروي أحد الموظفين أن التعويضات التي تُدفع للمصروفين اليوم تقل بنحو 50 في المئة عن تلك التي سددها المصرف عام 2021 للموظفين الذين تم صرفهم آنذاك إذ لا تتعدى سقف 24 شهراً من الراتب، رغم أن الرواتب نفسها لا تتجاوز 300 دولار. ما يعني أن التعويضات بالكاد تبلغ 7200 دولار في أحسن الأحوال، فيما سيحصل بعض المصروفين على أقل من 3500 دولار فقط.

نقيب موظفي المصارف إبراهيم باسيل يوضح لـ”المدن” أن النقابة لم تتلقّ أي شكوى من المصروفين في بنك ميد، “إما لأنهم على توافق مع الإدارة على قيمة التعويضات، أو لأنهم يخضعون لضغط وتهديد بعدم اللجوء إلى النقابة”. ويضيف أن التعويضات مهما بلغت قيمتها فإنها ستبقى “ضئيلة جداً وغير منصفة”، خصوصاً في ظل الانهيار المعيشي وغياب أي فرص عمل بديلة. ويستغرب باسيل “كيف لمصرف يدرك صعوبة المعيشة في لبنان أن يقدم على صرف جماعي بهذا الحجم اليوم؟”

عرضة للإفلاس

خلف هذا التقليص الممنهج، ما هو أعمق من “إعادة هيكلة”، فالمصرف، بحسب مصدر قانوني معني بالقطاع المصرفي، يواصل العمل بصعوبة وقد بات عرضة للإفلاس، ليس فقط بسبب تداعيات الأزمة المالية، بل نتيجة “إمعان بعض المسؤولين الإداريين فيه باستغلال مناصبهم في تجاوزات واختلاسات مصرفية ممنهجة”، فالمؤشرات تتوالى على تآكل هيكل المصرف من الداخل.

وبحسب المصدر يبيع بنك البحر المتوسط أصوله وعقاراته، في لبنان والخارج، لتغطية نفقاته التشغيلية، ودفع رواتب موظفيه. أي أن المصرف الذي كان يوماً بين مصارف “ألفا” الكبرى، يموّل استمراريته ببيع ممتلكاته، في سلوك لا يعبر إلا عن “إفلاس فعلي” مموّه، والأخطر وفق المصدر أن وجهة الأموال الناتجة عن بعض عمليات البيع الخارجي لا تزال غير واضحة، حتى لبعض الإداريين في المصرف الذين يُعتبرون خارج الدائرة الضيقة للمطلعين على تداعي المصرف داخلياً. ويختصر المصدر تقييمه لحال بنك ميد اليوم بالقول “إن المصرف منهوب وليس مفلساً فعلياً”.

ملفات فساد واختلاسات

في موازاة ذلك، تتكشف فصول من ممارسات الفساد التي نخرت المصرف منذ سنوات، ففي حزيران الماضي، فُتح تحقيق قضائي في قضية اختلاس ملايين الدولارات من حسابات مودعين، كشف حينه عن سرقات منظمة طالت حسابات عدة، وادّعي فيها بجرائم السرقة والتزوير واستعمال المزور. القضية لا تزال مفتوحة، والنتائج لم تعلن بعد، لكنها تؤكد أن “السرقة” لم تعد فعلاً فردياً داخل المصرف بل منهجاً مستمراً منذ ما قبل الأزمة وحتى اليوم.

ويقول مصدر من داخل المصرف إن عمليات الصرف ليست إلا وجه الأزمة، فالأزمة الحقيقية هي في “التواطؤ الإداري الممتد” داخل المصرف، وتحديداً المرتبط بتمكين عدد من المديرين من استنزاف موجوداته عبر قروض وهمية وعمولات وصفقات مشبوهة، وتهريب ودائع إلى الخارج مقابل عمولات ضخمة. أحد هؤلاء المديرين، الذي تجاوز السبعين من عمره، اشترى وفق المعلومات شقتين في دبي بقيمة مليوني دولار نقداً، خلال العام 2025، في عز الانهيار.

الفضائح لا تقف عند هذا الحد، إذ تشير المعلومات إلى أن المصرف، الذي كان قد أغلق فروعه في قبرص والعراق عام 2022 بحجة “تعزيز السيولة في لبنان”، أبقى على فرع وحيد في العراق لا يعمل فعلياً، لكنه يحتفظ فيه بأربعة موظفين يتقاضى كل منهم 20 ألف دولار شهرياً، لارتباطهم بمدير نافذ في بيروت. في المقابل، يتعذر على المصرف دفع رواتب موظفيه في لبنان إلا عبر بيع أصوله ويلجأ اليوم إلى صرف 150 موظفاً من دون سداد تعويضات لائقة.

“ذوبان” الموجودات

وليس سراً أن موجودات المصرف تقلّصت من 19 مليار دولار عام 2018 إلى نحو 4 مليارات في النصف الأول من عام 2025، بعد أن أطيح بجزء كبير منها لمصلحة شركات تابعة له أو شركاء له من رجال الأعمال والمقاولين. بكلمة أخرى، أطاح المصرف بأموال المودعين كما أطاحت الدولة بأموال المصارف، كما يقول القانوني المخضرم: “المصارف لم تسقط بسبب أزمة مديونية الدولة فحسب، بل بسبب سوء إدارتها وفسادها المستمرّ منذ أكثر من عقد”.

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كيف يستمر مصرف البحر المتوسط بالعمل حتى الآن؟ وكيف يمكن لمؤسسة مصرفية تبيع أصولها لتسديد الرواتب أن تبقى تحت غطاء “مصرف عامل”؟ والأدهى أن كل ذلك يجري تحت أنظار لجنة الرقابة على المصارف، علماً أن أحد أعضاء اللجنة السابقة كان يرتاد المصرف “لشرب القهوة مع المدير”، وفق شهادة أحد الموظفين.

من هنا لا يبدو بنك البحر المتوسط أمام “عملية صرف جماعي” فحسب، بل أمام انهيار كامل من الداخل، انهيار لم يبدأ اليوم، ولن ينتهي بمجرد إقفال الفروع. فالمصرف الذي كان يوماً خامس أكبر مصرف في لبنان، يتهاوى على وقع الفساد والصفقات والنهب الداخلي. إنه صورة مصغرة عن القطاع المصرفي، مؤسسات تمتصّ ما تبقى من موجودات لتؤمن رواتبها، فيما الدولة لا تزال تتأرجح بين قانوني الفجوة المالية وهيكلة المصارف والمودعون يدفعون الثمن.

مصدرالمدن - عزة الحاج حسن
المادة السابقةمؤقتة منذ 35 عاماً… تعيين لجنة جديدة لإدارة مرفأ بيروت
المقالة القادمةسعيد ممتعض من تعديل “إصلاح المصارف”: هل يواجه الحكومة؟