تبدو الحكومة وكأنها تركض داخل ممر ضيّق باحثة عن فتحة هواء قبل أن يُقفل العام الحالي 2025 أبوابه. الوعد الذي قطعته لصندوق النقد الدولي، ومعه العواصم الغربية التي تمسك بخيوط الوساطة بين مصرف لبنان ووزارة المالية والمصارف، عاد ليضغط فوق رأسها: إقرار مشروع قانون الفجوة المالية قبل نهاية العام، الذي ينذر باتساع الشرخ أكثر على المستويات كلها.
الحكومة تركض. لا تركض نحو الحلّ بقدر ما تركض هربًا من انهيار إضافي، وكذلك من تُهمة التقصير أمام صندوق النقد الدولي وكذلك أمام دولة أوروبية دخلت بحسب معلومات “نداء الوطن” وسيطًا بين ثلاثيّ النزاع: مصرف لبنان، وزارة المالية والمصارف.
كل جهد الحكومة، اليوم، يتركّز على إنجاز مشروع القانون، وكي يُقال إن مشروع قانون الفجوة المالية قد أُقرّ قبل الاستحقاقات السياسية المقبلة، أكثر مما هو سعي حقيقي إلى عدالة في توزيع الخسائر أو إنصاف المودعين، لكن خلف هذا الهدف الذي يبدو بسيطًا، ثلاثة احتمالات ثقيلة:
– الاحتمال الأول، أن يمرّ المشروع في مجلس الوزراء قبل نهاية العام، ثم يعلق في مجلس النواب، حيث تدخل الحسابات السياسية والانتخابية على الخط.
– الاحتمال الثاني، أن يمرّ مشروع القانون في الحكومة قبل نهاية العام كما هو مرسوم، ثمّ لاحقًا يصادق عليه في البرلمان… وهذا يعني حكمًا أن لا انتخابات نيابية في الأفق، قد تسمح للنواب بالتهرّب أو بالاستثمار في الرفض الشعبي.
– الاحتمال الثالث، ألّا يمرّ المشروع لا في الحكومة ولا في البرلمان، فيستمرّ الخلاف مفتوحًا، فيما يدفع الاقتصاد والمودعون فاتورة هذا التأخير الذي تخطى 6 سنوات إلى اليوم.
في هذه المعركة كلها، يمكن القول إن الصيغة التي كشفت عنها “نداء الوطن” خلال شهر أيلول الفائت (مقال بعنوان: ستة أقسام للمعالجة واستعادة التوازن المالي) ما زالت كما هي تقريبًا، وتمثّل العمود الفقري للحلّ المطروح مع تعديلات تجميلية من هنا أو هناك.
الثابت الأول، أن أول 100 ألف دولار لكل مودِع ستُدفع (بالتقسيط طبعً)، على أن يتحمّل مصرف لبنان منها نحو 20 % ويبدأ هو بدفعها، فيما تتوزع النسبة المتبقية بين المصارف والدولة اللبنانية، وذلك بحسب معلومات “نداء الوطن”. أمّا الكلفة الإجمالية لهذا الالتزام فسوف تراوح بين 14 و17 مليار دولار.
الثابت الثاني، هو أكثر إيلامًا: شطبٌ كبير من الودائع، قد يتجاوز 30 مليار دولار. هذا الرقم لا يُقرأ فقط في ميزانيات المصارف، بل في تفاصيل حياة الناس: تقاعد تبخر، تعليم تهدّد، بيت ينتظر دولارات قد لا تأتي، ومودِع يحدّق في كشف حسابه كما لو أنه ورقة نعي.
الثابت الثالث، هو إعادة قراءة جزء من الودائع، ولا سيما الشيكات المصرفية، وفق قيمتها الحقيقية في حينه، لا وفق الأرقام التي كُتبت على الورق في زمن ما بعد الانهيار وخلاله. بمعى آخر، فإن طرح إعادة تقييم الشيكات المصرفية ما زال قائمًا بخلاف كل النفي الذي صدر من هنا أو هناك في حينه.
أمّا الثابت الرابع، فهو أن خيار الـ bail-in التقليدي، أي تحويل جزء من الودائع إلى أسهم في المصارف، قد جرى استبعاده بالكامل. الحل البديل هو سندات zero coupon، لا فوائد عليها، تُقدَّم للمودعين باسم “حلّ مرحلي”، لكنها في العمق محاولة للحفاظ على تركيبة القطاع المصرفي الطائفية، ومنع تبدّل موازين الملكية داخل المنظومة المصرفية.
بهذه الصيغة، يبدو المشروع مرشحًا لرفض ثلاثي واضح: من صندوق النقد الدولي، من المودعين، ومن المصارف نفسها. المودعون لن يقبلوا بسهولة بفكرة شطب بهذا الحجم من ودائعهم، بعد 6 سنوات من التعاميم والوعود والتطمينات الفارغة.
أمّا صندوق النقد الدولي، فينطلق من قاعدة واحدة لا يريد التنازل عنها: “تراتبية الخسائر”. أي أن تبدأ الخسائر وبالتالي شطب رساميل المصارف قبل الوصول إلى أموال الناس… وهذا أمر ترفضه المصارف حتى اللحظة.
بالنسبة إلى المؤسسة الدولية، فإن ما يجري في لبنان كان سابقة عالمية، لكنها قد لا تبقى سابقة إذا ما تحوّلت إلى نموذج تستند إليه دول أخرى عند أول أزمة مالية، فتأتي تطالب بالمعاملة نفسها.
في الجهة المقابلة، المصارف لن تقبل بسهولة أن تُشطب رساميلها بالكامل، لأن ذلك يعني عمليًا وضع الكلفة عليها مباشرة، وتحميلها مسؤولية إعادة رسم الخارطة داخل القطاع المصرفي. ومن هنا يمكن قراءة ملامح مواجهة وشيكة ضد المشروع، حتى من داخل المؤسسات التي يُفترض أن تكون شريكة في الحلّ، وليس عائقًا أمامه.
مع ذلك، يستمر السباق المحموم داخل مجلس الوزراء لإقرار مشروع القانون كما هو، قبل نهاية العام، فقط لرفع العتب، وذلك لمجرّد القول إن الحكومة أنجزت “المطلوب منها” ورمت الكرة في ملعب سواها (البرلمان). لكن ما ينتظر لبنان في حال استمرار هذا النهج، هو مشهد قاتم: ثلاثة قوانين أساسية لا تحظى برضى المجتمع الدولي ولا بثقة اللبنانيين أنفسهم: قانون السرية المصرفية، قانون إعادة هيكلة المصارف، واليوم قانون الفجوة المالية.



