تحولت شبكات الصرف الصحي في لبنان من مشروع تنموي طال انتظاره إلى واحدة من أخطر الأزمات البيئية والصحية المفتوحة، فبدل أن تشكل ركيزة لحماية المياه والتربة وصحة السكان، أصبحت في مناطق واسعة مصدرا للتلوث اليومي المستمر، بنى تحتية متعثرة، محطات تكرير متوقفة أو تعمل بقدرة شبه معدومة، شبكات غير مكتملة وأخرى غير مرتبطة أساسا بالمحطات التي أُنشئت من أجلها، أما الأنهار والبحيرات، وفي مقدمتها حوض الليطاني، فتستقبل يوميا آلاف الأطنان من المياه المبتذلة غير المعالجة، لتتحول إلى مجار مفتوحة تنشر الأمراض، وتقتل الحياة المائية، وتضر الزراعة والموارد الغذائية.
المشهد صادم، ليس فقط بيئيا وصحيا، بل ماليا أيضا، فبعد سنوات من الوعود الرسمية والمشاريع الممولة داخليا وخارجيا، تظهر الأرقام واقعا يناقض كل الشعارات، فمنذ عام 1992 حتى 2018، تجاوز الإنفاق المخصص لمشاريع معالجة الصرف الصحي مليارا ومئة وعشرين مليون دولار، رقم هائل قياسا بالنتيجة الكارثية، خصوصا إذا ما علمنا أن 95% من محطات التكرير، وعددها 96 محطة متوقفة عن العمل أو تعمل بقدرة هزيلة.
النائبة نجاة عون صليبا تلخص المأساة بوضوح قائلة “الهدر مستمر منذ أكثر من 25 عاما تحت عنوان إنشاء محطات لمعالجة الصرف الصحي، تصرف الأموال على الخرائط والدراسات والعقود، ثم تجدد الاتفاقيات مرة بعد مرة، من دون ترجمة فعلية على الأرض، ورغم المليارات، تبقى المحطات بمعظمها خارج الخدمة أو غير مرتبطة بالشبكات أساسا.”
وتكشف بيانات UNICEF أن أقل من 8% من مياه الصرف تخضع للمعالجة، فيما يُلقى معظمها مباشرة في الأنهار والمياه الجوفية، بما فيها حوض الليطاني، ما يعني أن البلاد تقف فعليا أمام انهيار بيئي وصحي شامل، ويأتي هذا على وقع هدر مالي هائل، حيث كشف تقرير ديوان المحاسبة 2025 عن خسائر تقدر بحوالى 763.5 مليون دولار نتيجة محطات متوقفة أو تعمل بقدرة ضعيفة، بينما بلغت تكلفة المحطات المعطلة منذ 2022 نحو 194 مليون دولار، وحتى مشاريع إعادة التأهيل الحديثة بالتشارك مع UNICEF والاتحاد الأوروبي لإعادة تشغيل 11 محطة رئيسية لا تكفي لسد الفجوة الكبيرة، ما يجعل أزمة الصرف الصحي اللبنانية مستمرة ومهددة لمستقبل المياه والزراعة والحياة اليومية للمواطنين.
وفي بلدة القرعون، يبرز الواقع البيئي بشكل ملموس، حسب تصريح مختار البلدة، فادي أبو فارس لـ “الديار”: “نحن نتابع في القرعون ما يجري في المنطقة حيث يقوم مجلس الإنماء والإعمار بتنفيذ مشروع المجرور لمصلحة بلدية القرعون، خلال الأشغال، وبعد حفر الأرض لمسافة تقارب مترين ونصف، تبين وجود نبع مياه طبيعي في الموقع لكن للأسف، تم طمر النبع”.
وأشار إلى أن المشكلة تتجاوز الأبعاد المحلية المباشرة :”القرعون اليوم تواجه واقعاً صعباً، هناك آبار يصل عمقها إلى 150 متر بدأت تنشف، وظهور نبع في هذا الوقت من السنة هو استثمار مهم، لكن المفاجئ أن الجهة المنفذة وضعت الغرفة المخصصة لتجميع المجارير فوق النبع مباشرة، وكأن الهدف طمره وإلغاؤه، وهذا أمر غير مقبول إطلاقاً، ويشكل خطرا بيئيا وصحيا كبيرا على المنطقة.”
وأضاف أبو فارس: “حفرة تجميع المجرور وضعت على مسافة ثلاثة إلى أربعة أمتار فقط من أحد المنازل، وهذا أمر لا نقبله إطلاقاً لأنه يعرض الأهالي للأذى ويخالف أبسط قواعد السلامة العامة، وأضاف أبو فارس”اقترحنا ببساطة نقل موقع الغرفة مئة متر أو أكثر، لتكون بعيدة عن البيوت وتتيح حماية النبع”، مشيرا إلى أن المنطقة المحيطة بها مساحة واسعة يمكن اختيار موقع مناسب يوفق بين مصلحة المشروع وحماية الموارد الطبيعية، “كما تقدمنا بعريضة موقعة من جميع المتضررين، أُحيلت إلى قاضي الأمور المستعجلة، الذي بدوره أحال الملف إلى وزارة الصحة نظراً إلى ما يشكله من خطر على المياه الجوفية والصحة العامة”.
خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أكد أن “تلوث شبكات الصرف الصحي في لبنان يشكل تهديدا متعدد الأبعاد على البيئة والمياه، فتصريف مياه شبه معالجة أو غير معالجة إلى الساحل يؤدي إلى تدهور جودة مياه الاستجمام، ويؤثر سلبا في قطاعي الصيد والسياحة، مع زيادة مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه، خصوصا في سواحل المدن الكبرى” وأضاف “أما الأنهار والبحيرات، مثل الليطاني وأنهار محلية أخرى، فتتعرض لمستويات مرتفعة من المواد العضوية والنيتروجين والفوسفور، ما يخنق التنوع الحيوي ويزيد ظاهرة الإتقان الحراري ويهدد الأمن الغذائي الزراعي”.
وأشار إلى أن “المياه الجوفية في السواحل تواجه خطر التلوث نتيجة الضخ الجائر للأحواض الجوفية وتسرب الملوثات من شبكات الصرف والحفر الفردية، مؤكدا أن “هذه الممارسات تؤدي إلى تدهور مستمر في جودة المياه الصالحة للشرب في مناطق متعددة”.
وأضاف “تلوث شبكات الصرف الصحي له أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية أيضا، فالإصابة بالأمراض المعوية والأمراض المرتبطة بالتلوث المائي ترتفع في المناطق التي تلقى فيها مياه الصرف دون معالجة، مع تحمل المجتمعات الريفية والمهمشة العبء الأكبر، كما يتأثر الصيادون والمزارعون اقتصاديا نتيجة انخفاض المخزون السمكي وتلوث مصادر الري، ما يضر بالدخل المحلي”.
وشدد الخبير على أن “التأخير في إصلاح وتشغيل محطات المعالجة يزيد التكلفة على الدولة والمجتمع، لأن تراكم التلوث وتدهور النظم البيئية يؤدي لاحقا إلى خسائر أكبر بكثير من تكلفة الصيانة الوقائية”.
وأشار الخبير إلى أن فشل سياسات الصرف الصحي في لبنان يعود إلى عدة عوائق رئيسية مترابطة:
أولاً، التمويل والتشغيل: فالمشاريع غالبا ما تموَل من منح أو قروض دولية، لكن التشغيل طويل الأمد يتطلب إيرادات أو ميزانيات حكومية ثابتة، وهو ما يفتقر إليه النظام حالياً.
ثانياً، الحوكمة والتشريعات: تشتت الصلاحيات بين مؤسسات مركزية وإقليمية، وضعف الرقابة، وعدم تطبيق معايير واضحة يعرقل تنفيذ السياسات.
ثالثاً، الطاقة والتجهيزات: انقطاع الكهرباء المستمر يزيد كلفة التشغيل ويؤثر في كفاءة المحطات، بينما تحتاج المعدات المهترئة إلى استبدال مكلف.
وأخيراً، نقص الحلول الموزعة: التركيز على محطات مركزية كبيرة دون تشجيع نظم لامركزية أصغر مناسبة للسياق المحلي يضع عبئا فنيا وماليا أكبر، بينما تقترح الدراسات المحلية اعتماد حلول لامركزية كبديل ملائم.
ولمواجهة هذه الأزمة متعددة الأبعاد، يشير الخبير إلى ضرورة اعتماد مجموعة من الإجراءات العملية والإصلاحية:
ـ تأمين صندوق تشغيل مؤقت لإبقاء المحطات الحيوية عاملة حتى تُبيت آلية تمويل مستدامة (تعرفة مناسبة، دعم هدفّي، “شراكات” عامة – عامة أو عامة – خاصة).
ـ إصلاح الحوكمة “توحيد الجهات المسؤولة، جداول زمنية للمدفوعات، ونظام شفاف للعقود والصيانة”.
ـ دعم الأنظمة اللامركزية في القرى والضواحي حيث تكون الحلول أصغر وأسهل للصيانة وتكاليف أقل.
ـ الاستفادة من الطاقة الحيوية: استرجاع الطاقة من الحمأة يمكن أن يخفف من فاتورة الطاقة التشغيلية لبعض المحطات عند تطبيقه.
ـ مراقبة بيئية مستقلة ونشر بيانات دورية عن جودة المياه للمساءلة العامة.
شبكات الصرف الصحي في لبنان مثال صارخ على فشل السياسات العامة، حيث تتحول الأموال الطائلة إلى مشاريع على الورق، فيما المواطن يدفع الثمن الصحي والبيئي، فمن دون إصلاح شامل، ستستمر الكارثة، وسيظل لبنان في مواجهة أزمة بيئية وصحية متفاقمة تهدد مستقبله الزراعي والبحري والغذائي.



