لبنان شريك لا وسيط: الساحل السوري منصّة استثمار إقليمية

يعود الساحل السوري تدريجاً إلى واجهة الاهتمام الإقليمي والدولي، ولكن بأبعاد اقتصادية تنموية حقيقية هذه المرّة، بعيدًا عن مظاهر “الكباش” السياسي ودعوات الانفصال والتقسيم المرتبطة ببازارات المصالح الضيقة.

وتوالت خلال الأيام القليلة الماضية إشارات لبدء التعاطي الاستراتيجي مع إقليم الساحل السوري، وإعادة استكشاف واستثمار سلاسل المقوّمات التي ينطوي عليها، من الثروات الدفينة إلى “ثروة الجغرافيا”، والتي لطالما كان بقاؤها خارج السياق الاستثماري الفعّال مثار تساؤلات ملحّة على مرّ عقود مضت.

وإن كان العقد الذي جرى توقيعه قبل أشهر بين هيئة المنافذ البحرية السورية وشركة “موانئ دبي العالمية” لاستثمار مرفأ طرطوس، هو بداية التقاط الفرص الدسمة في الساحل، فإن أهمّ ملامح التوجّه الجديد للدولة السورية نحو فتح “صندوق الكنز”، ظهر في كلمة الرئيس الشرع الموجّهة لاجتماع محافظ اللاذقية مع وجهاء ولجان الأحياء منذ أيام: “الساحل من أبرز أولويات العمل الوطني في المرحلة الحالية، نظراً لموقعه الحيوي على ممرّات التجارة الدولية ولدوره في تعزيز الربط الاقتصادي بين سوريا ودول المنطقة”.

وتلى ذلك اجتماع الشرع مع الشركة السورية للبترول وشركة شيفرون الأميركية في حضور توم باراك المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، لبحث آفاق التعاون في مجال استكشاف النفط والغاز في السواحل السورية.

فـرص متوالية

الواقع أن فرص الاستثمار في الساحل السوري تتجاوز الحيز القطاعي المحدود، إن كان من النفط أوالغاز أو الزراعة أو السياحة، إلى ما تتيحه “ملكة الجغرافيا” من فرص دسمة متوالية ممتدة في أفق إقليمي عابر للحدود السياسية.

من هذه الرؤية ينطلق الخبير الاقتصادي سلمان ريا، وهو دكتور مهندس بحري ورئيس غرفة الملاحة البحرية سابقًا، معتبرًا أن الساحل السوري يبدو على عتبة تحوّل من شريط جغرافي يتميّز بموقعه، إلى إقليم اقتصادي يُقاس بالدور والحركة والتأثير، أي إلى ساحل يمتلك ما هو أعمق من البحر، وأبعد من الميناء… ينطوي على ما يمكن تسميته “وعد الوصل”، إذا ما أُدير بمنطق التكامل لا بمنطق الفوات، و بعقل العبور لا بعقل العزلة.

لبنان شريك

ويذهب الدكتور ريا في حديثه إلى “المدن” إلى أبعد من المضمار السوري. فبرأيه، عندما نتحدّث عن سوريا كمنصّة ترانزيت إقليمية، لا يكتمل المعنى من دون لبنان، الذي لم يكن يومًا جغرافيا جوار فقط، بل كان امتدادًا بنيويًا في حركة التبادل المتوسطي.

فلبنان بما يحمل من خبرات مصرفية عريقة، ومنظومات تشغيلية في إدارة المرافئ، وشبكة علاقات تجارية ومالية مأهولة بالثقة الدولية، يمكن أن يكون اليومَ مركز تمويل وتشغيل لوجستي بحري مشترك، تتدفق منه خبرات الشحن والتخزين والتأمين البحريّ نحو الساحل السوري، قبل أن تتوزّعَ تلك السلاسل برًا إلى العمق العربي–الآسيوي، نحو العراق، الأردن، الخليج، السعودية، بل وحتى إيران ودول غرب آسيا.

تجارب راسخة

هي مِنح الجغرافيا التي وثّقتها تجارب فعلية تركت أثرها العميق، فالتاريخ ـ وفقًا للدكتور ريا ـ وثّق نموذجًا مكتملًا لهذا المنطق العابر، عبر خط النقل Ro-Ro الذي انطلق من ڤولوس في اليونان، ووصل من الشرق إلى بوابة أوروبا عبر الحمولات الآلية من سيارات وشاحنات وحاويات. ذلك الخطُّ الذي جعل اليونان بوّابة الشمال نحو الشرق، يمكن استعادته اليومَ بمنطق معاكس لا منافس: ميناء اللاذقية وميناء طرطوس يُعيدان تعريف سوريا كبوّابة عبورٍ للجنوبِ والشرق نحو أوروبا. أما لبنان فيغدو مركز التشبيك المالي والتشغيل الذي يسند العبور بالاستثمار والضمانات المصرفية.

منطقة حرّة متكاملة

رؤية المهندس البحري لا تقوم ـ وفق تعبيره ـ على المرافئ وحدها، بل على هندسة دور جديد للساحل ضمن منظومة اقتصادية متكاملة تقوم على أسس عدّة، تتصدرها ما سمّاها “المنطقة الحرة الساحلية اللامركزية”، ويعرّفها بأنها فضاء التقاء الخبرات لا ازدحام الإدارات.

فتحويل الساحل إلى منطقة حُرّة لا مركزية الإدارة، يعني أن يتحوّل من مرفق تابع إلى إقليم اقتصادي مستقلّ الوظائف والقرارات، مفتوح على خبرات عابرة للحدود، تلتقى فيه قدراتُ لبنان اللوجستية والمالية، مع خبرات تركيا، والخليج، وأوروبا، وشرق آسيا، ضمن بيئةٍ قانونيةٍ تستندُ إلى: معاهدة UNCLOS، اتفاقية SOLAS، اتفاقية MARPOL، وتلتزم بآليات التدقيق الإلزامي: IMSAS، التي تُشغّل الميناء وفق المعايير البحرية العالمية، وتتيح لسوريا فرصة الخروج من هامش التوقيع إلى متنِ التنفيذ، تمهيدًا لدخول اللوائح البيضاء الخاصة بمنظومات الملاحة الدولية.

موانئ نظيفة

لكن تبقى المرافئ محور الإستراتيجية الواعدة في التوجه نحو استثمار وتنمية الساحل..فالدكتور ريا يرى أن تطوير المرافئ المتخصّصة بيئيًا “الاقتصاد الأزرق” يبدأ من حماية البحرِ لا من استنزافه.

فمن بين أهم أركان التحوّل اللوجستي، إعادة تعريف وظيفة الاستقبال في الساحل عبر إنشاء مرافئ متخصّصة للحمولات الحسّاسة، وضبط الملوّثات والمواد السائلة. وهنا يأتي دور مرفق المناولة الكيماوية في منطقة الحميدية قرب الحدود اللبنانية مع محافظة طرطوس، المعروفة كمرفأ للمُلوّثات والمواد الكيميائية، والذي يجب تطويره ضمن بيئة تقنية وبيئية صارمة تلتزم بمضمون المعاهدة الدولية لمنع التلوث MARPOL، ليكون ميناء نوعيًا للترانزيت الكيماوي الآمن، يخفّف العبء عن المرافئ العامة، ويؤسّس لتجارة إقليمية متخصّصة تتعلق بالصناعة البحرية والبتروكيميائيات والغذائيات وتخزين المواد الخام.

موانئ جافّة متممة

ثمة مكوّن متمم للمنظومة اللوجستية الواعدة في الساحل، تتمثّل، في رأي رئيس غرفة الملاحة البحرية السابق، في شبكة المرافئ الجافة، بما أن الميناء الذي لا يتنفس برًّا يختنق بحرًا.

فالتكامل الحقيقي يبدأ من الداخل السوري، حيث يجب تحويل المناطق الصناعية والحدودية إلى امتداد مباشر للميناء عبر مرافئ جافة ومراكز جمركية ولوجستيات متقدّمة مثل: عدرا، حسياء، الشيخ نجار.

مع إنشاء موانئ جافة مماثلة على الحدود اللبنانية، الأردنية، والعراقية، لتكون نقاط تفريغ وتخليص وإعادة شحن عابرة، تتيح للساحل أن يستقبل الحاوية اليوم، ويُخليَها إلى البرِّ في الغد بلا اختناق ولا تأخير ولا كُلف مرتفعة.

شراكة فاعلة لا مجرّد وساطة

يصرّ الخبير ريا في تصوره لمستقبل منظومة استثمار الإقليم، على أن لبنان شريك لا وسيط، والميناءين جناحان لجسد اقتصادي متوسّطي واحد.

إذ يمكن للبنان – عبر مصارفه، شركات الشحن، والخبرة المرفئية – أن يتولّى عدّة مهام استراتيجيّة.. كتمويل العقود اللوجستية المشتركة، وإدارة مسارات التأمين والتحميل، وتأسيس شركات النقل العابرة عبر الحدود، بحيث يغدو لبنان ركيزة التمويل… وسوريا منصّة التشغيل والعبور والتنفيذ، في معادلة تُعيد للمتوسّط دور الجسر الفعّال بين أوروبا والعالم العربي وغرب آسيا.

ويوضح الدكتور ريا رؤيته لفلسفة إدارة عميقة للمرافق الواعدة، ويرى أن الأمن هنا قانون مؤسّسي لا شعار، واستثمار البحر فوق السياسة لا تحتها.

فإعادةَ البناء المؤسسيّ – قانونياً وبيئياً وإدارياً – تُعيد للمرفأ ثقة المستثمر قبل ثقة السفينة، وتجعل من الساحل منطقة حُرّة تُدار اقتصاديًا وفق استراتيجيات وطنية متوسّطية مفتوحة لا مُقيّدة بالأطر التقليدية، بحيث يصبح المتوسط منطق التقاء لا ساحة تنازع، ويصبح الميناء منصّة تشغيل لا بوّابة ازدحام.

ويختم الخبير الاقتصادي البحري بأنّ القيمةَ الاقتصادية للساحل السوري لا تكمن في أنه يطل على البحر، بل في قابليته لأن يقود حركة العبور من البحر إلى البرِّ العربيّ والآسيويّ، ومن البرّ إلى المتوسط الأوروبيّ والقارّي.

بهذا المنطق، من وجهة نظره، تعودُ سوريا – ومعها لبنان – إلى قلبِ اقتصاد التبادل المتوسّطي، حيث تُقاس الأوطان اليوم بالدور الذي تلعبه في حركة التجارة، لا بالحدِّ الذي يقف عنده البحر، ولا باليوم الذي توقّف فيه التاريخ.

مصدرالمدن - ناظم عيد
المادة السابقةهجرة اللبنانيين وعودة السوريين: 900 ألف غادروا باتجاه واحد