في أحد المحال التجارية الكبرى في لبنان، وقفت جوليانا الخوري أمام واجهة مخصّصة لعرض احتياجات عيدي الميلاد ورأس السنة، تسعى لشراء أساسيات هذه المناسبات، من بعض الحلويات، إلى الزينة، والهدايا الرمزية للأطفال. وما يفترض أن يكون تحضيراً دافئاً للعيد، أصبح موقفاً مليئاً بالكثير من التحديات، ليس فقط بسبب ارتفاع الأسعار، بل بسبب تنوع الخيارات، وأسلوب “التراندات” الذي بات يغزو الأسواق والشاشات.
تقول الخوري تبدل مفهوم العيد بشكل كبير، ولم يعد يقتصر على بعض السلع أو الحلويات، أو ما شابه، بل أصبح عبارة، عن سباق بين العائلات، لشراء “أكسسوارات العيد”، ومن لا يمتلك هذه “الأكسسوارات” يصبح خارج التراند، وبالتالي يشعر كأن هناك نقصاً في العيد.
قصة الخوري ليست استثناء، بل تعكس واقعاً بدأ بفرض نفسه بقوة في الشارع اللبناني. من البديهي أن تتلألأ الشوارع بزينة الميلاد ورأس السنة، إلا أن الغريب نوعاً ما، اجتياح الزينة كافة تفاصيل الحياة، بدءاً من أكسسوارات الطعام، وصولاً إلى صالونات الحلاقة والتجميل، مروراً حتى بائعي الخضار، والمطاعم، الذين يروّجون لأطعمة مخصّصة للأعياد لا تعد ولا تحصى.
السوق الاستهلاكي
يستغل التجار الأعياد الموسمية، للترويج لبضائعهم بشكل مبالغ به، مستغلين حاجة اللبنانيين للاحتفال، ومجيئ المغتربين لقضاء العطلة، بالإضافة إلى التلاعب النفسي للتأثير على المستهلكين ودفعهم للشراء. يركزون على ابتكار تراندات موسمية تجعل المستهلك يشعر بأنه مضطر لاقتناء كل ما هو “عصري” أو “مطلوب” لمواكبة الأعياد، حتى لو كانت الأشياء غير ضرورية.
هذا النمط يدفع العائلات إلى الإنفاق المفرط على المنتجات. تشرح رينا فرنسيس “أم وموظفة” كيف تحول بيتها إلى ما يشبه بيت “سانتا كلوز”، إذ لم تتمكن من الهروب من شراء أدوات المطبخ بزينة الميلاد ورأس السنة بل طلب أبناؤها أيضاً تغيير أثاث غرفهم ليتلاءم مع الأجواء الاحتفالية، بما في ذلك شراشف الأسرّة، البرادي، وحتى السجاد، مما يعكس كيفية استغلال السوق الاستهلاكي للأعياد بهدف دفع الأسر إلى شراء المزيد من المنتجات، حتى تلك التي تبدو غير ضرورية.
تقول فرنسيس لـ”المدن”: “بعد أن انتهيت من شراء كل هذه المستلزمات، قمت باحتساب المبلغ الإجمالي، وفوجئت بأنني أنفقت أكثر من 400 دولار على الزينة والهدايا والديكور”. وبحسب تعبيرها، فإن هذا مبلغ لم تكن تتوقعه على الإطلاق: “شعرت بأنني لم أشتر لأنه موسم العيد، بل لأن أسلوب “التراندات” فرض نفسه بقوة على عائلتنا”.
أسعار مبالغة
تتطلب مسألة مواكبة التراندات أو الأسلوب العصري للاحتفال، ميزانية كبيرة، وفي الكثير من الأحيان لا يشعر المواطن بالمبالغ التي يقوم بإنفاقها. بحسب فرنسيس، تفاجأت بإبنتها التي تطلب منها، زيارة مركز التجميل، لتزيين شعرها باللون الأخضر والأحمر، على اعتبار أنهما ألوان العيد، ووجدت بأن جميع صديقاتها، قمن بتغيير ألوان شعرهن وفق “الموضة” الجديدة. تقول: عادة تتراوح أسعار تغيير ألوان الشعر، أو تزيينه بين 20 و40 دولاراً، إلا أن الأسعار الخاصة بالأعياد تضاعفت، ليبدأ السعر من 40 دولاراً ويرتفع تدريجياً.
منذ بداية كانون الأول وحتى نهايته، ارتفعت أسعار الكثير من السلع الموسمية بسبب زيادة الطلب عليها، يوضح أحد بائعي الألعاب والهدايا “في بداية الشهر، كان سعر الجملة لفناجين القهوة الخاصة بالأعياد لا يزيد عن 5 دولارات، فكنا نبيعها ما بين 7 و8 دولارات، ومع منتصف الشهر الحالي، بدأت الأسعار ترتفع من قبل التجار الكبار، ليصل سعر الفناجين إلى 10 دولارات، فنضطر حينها لبيعها بسعر 15 دولاراً”.
وهو ما تؤكده الخوري، التي تشير إلى أنها اشترت أحد الفناجين الخاصة بالميلاد بسعر 7 دولارات، لتعود بعد يومين لشراء فنجان أخر، فتتفاجأ بأن السعر وصل إلى 10 دولارات، ومن ثم ارتفع إلى 15 دولاراً.
لا تقف المشكلة عند هذا الحد بالنسبة إلى الخوري، بل أيضاً وصلت إلى ترويج التجار للأنماط معينة من الهدايا خلال الأعياد، مستهدفين الأطفال في منازلهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ففي السابق، كان من المتعارف عليه، حصول الأطفال على الألعاب البسيطة، وحصول الكبار على هدايا رمزية، لكن الآن، باتت الهدايا عبارة عن أجهزة كومبيوتر، أو ألعاب رقمية، أو ساعات فاخرة، وغيرها، ما يجعل من الصعب فعلاً تأمينها.
بالإضافة إلى التغييرات الحاصلة في قائمة الهدايا، فإن بعض الممارسات الاجتماعية، تفرض نفسها ايضاً، وتعطي فرصة للتجار لزيادة أرباحهم. قبل سنوات، لم يكن مفهوم زينة الميلاد ورأس السنة، أكثر من مجرد مغارة، وشجرة ميلاد، وبعض الإضاءة، لكن اليوم تبدل المفهوم كلياً، وباتت الزينة عبارة عن فرصة للتباهي أمام الأصدقاء والأهل، من خلال تركيب أكبر شجرة ميلاد في البيت، أو شراء الزينة من علامات تجارية معينة، أو الاحتفال بالأعياد في مطاعم أو فنادق.
التراند في الطعام أيضاً؟
في جولة على الأسواق التجارية في بيروت، يتضح الكم الهائل من الإعلانات الخاصة بالأطعمة المخصّصة للأعياد، والتي تتضمن عبارات مثل: “لفترة محدودة: قهوة بأكواب خاصة بالأعياد، أو مثلاً كعكة على شكل شجرة الميلاد، أو حتى الترويج لأنواع مختلفة من المشروبات الساخنة المخصّصة للأعياد. هذا الأسلوب الترويجي، يستغل عنصر الوقت والمناسبة الاحتفالية لدفع المستهلك نحو الإنفاق الفوري.
يخلق التسويق بهذه الطريقة شعوراً لدى المواطنين بضرورة شراء البضائع، قبل انتهاء الفرصة، تتحول منتجات بسيطة كالدوناتس أو المشروبات الساخنة إلى سلع مرغوبة بشكل مبالغ فيه، مما يعكس استغلال السوق الاستهلاكي للأعياد لتحقيق زيادة في المبيعات وإحداث تأثير نفسي على المستهلكين.
ضغط اجتماعي
لا ينفي باتريك معوض، وهو موظف في أحد المؤسسات المصرفية، أن موسم الأعياد بات كابوساً له. يقول لـ”المدن”: لم تعد سلة الهدايا محصورة بالعائلة، بل توسعت لتشمل الأصدقاء، والزملاء في العمل، إذ يحتفل الموظفون بما يعرف بـ”secret santa” ويقول “أن المشكلة ليست بقيمة الهدية فقط، بل بنوعيتها، إذ يحرج الموظف الذي لا يشتري هدايا فاخرة أمام باقي الزملاء، أو لا تتضمن هديته بعض الأكسسوارات الخاصة بالأعياد، الرائجة في الموسم. ووفق معوض، باتت تكلفة شراء الهدايا في شهر كانون الأول، تفوق ضعفي راتبه الشهري.
الأسباب عديدة
صحيح أن السياسات الاقتصادية في لبنان ساهمت تاريخياً في دفع الاقتصاد نحو الاستهلاك، إلا أن الانهيار الاقتصادي عام 2019 قضى عملياً على ما تبقى من قطاعات إنتاجية، وفتح المجال واسعاً أمام التجار لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد استهلاكي بحت، يقوم على الإنفاق الموسمي والخدمات التجارية.
في هذا السياق، لم تعد أعياد الميلاد ورأس السنة مناسبات اجتماعية ذات طابع عائلي، بل تحولت إلى مواسم للشراء، يُقاس فيها الفرح بحجم الإنفاق وكمية السلع المقتناة.
هكذا، جرى ربط السعادة بمواكبة “التراند” واقتناء المنتجات الرائجة، في عملية يمكن توصيفها بـ”تسليع الفرح”، حيث باتت المشاعر والطقوس الاحتفالية خاضعة لمنطق السوق.
من جهة أخرى، يستغل بعض التجار هذه المواسم لتعظيم أرباحهم، مستفيدين من ارتفاع الطلب المدفوع بالترويج والإعلانات المكثفة، إلى جانب غياب الرقابة والضبط السعري، ما يجعل الأعياد فرصة ذهبية للتجار، في مقابل عبء إضافي وضغط اقتصادي متزايد على العديد من الأسر اللبنانية.



