عندما نعود إلى الصور القديمة للبنان، دائماً ما نقول إننا نرجع إلى الخلف وبلدنا في الستينيات كان من الأفضل والأجمل في الشرق الأوسط، أما الآن فحدّث ولا حرج. الا أنه ليست كل البلدان مثل حالنا، ولعل أبرز مثال على ذلك سنغافورة. قبل خمسين عاماً فقط، كانت سنغافورة بلداً متخلفاً نوعاً ما، يعاني سكانه من فقر شديد، بالإضافة الى مستويات عالية من البطالة. وبحسب الإحصاءات كان يعيش 70% من شعبها في أوضاع غاية في السوء، وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد أقل من 320 دولاراً أمريكياً، وكان نصف السكان من الأميين. أما الآن، فهي واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، ومن أكثر البلدان تقدماً وتطوراً وجمالاً، وقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد ووصل إلى 60 ألف دولار أميركي، مع معدل للبطالة بلغ 2% فقط. كما أنها واحدة من المراكز التجارية والسياحية الرائدة في العالم، ومقصد رئيس للاستثمارات الأجنبية. فكيف حصل كل ذلك في هذه الفترة القصيرة؟
منذ أكثر من مائة سنة، كانت سنغافورة مستعمرة تحت السيطرة البريطانية، ثم انفصلت عنها واندمجت مع ماليزيا ولكن مع خروج المستعمر الإنجليزي امتلأت سنغافورة بالصراعات الاجتماعية خلال العامين التي كانت فيهما جزء من الاتحاد الماليزي، وكان الجانبان يتصارعان على استيعاب بعضهما البعض عرقياً. وكوسيلة لضمان بقاء الماليزيين أغلبية في ماليزيا، صوت البرلمان الماليزي على طرد سنغافورة من اتحاد ماليزيا. بعدها سعى رئيس الوزراء لي كوان إلى طلب المساعدة الدولية، ولكن توسلاته لم تتلق أي رد. ثم أدرك أن النهوض لن يأتي إلا بالاعتماد على الذات، وبدأ أولاً بحل مشكلة البطالة عبر تنفيذ برنامج شامل للتصنيع، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة، ثم قامت الحكومة بإنشاء “مجلس التنمية الاقتصادية” ليتولى هندسة جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن من أجل جذب المستثمرين كان على سنغافورة أن تخلق بيئة آمنة، ومنظمة، وخالية من الفساد، وأن تخفض معدلات الضرائب، وأن تزيل أية عوائق من النقابات العمالية. ولجعل ذلك ممكناً كان على مواطني البلد أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم لصالح حكومة لتضبط الفوضى.
بدأ السيد لي بعملية التطهير وخلق البيئة الجاذبة للاستثمار، فكان أي شخص يُقبض عليه في تجارة المخدرات مثلًا، أو في واقعة فساد، يعدم على الفور، كما قام حزب لي بقمع جميع النقابات العمالية المستقلة، ووحد ما تبقى منها تحت مظلة واحدة، كما تم سجن أي شخص يهدد الوحدة المؤسسية أو السياسية فعمَّت الصرامة في البلاد. كما قامت بإنشاء العديد من المدارس الفنية وركزت على التعليم واعتبرته حجر الأساس لبناء الدولة، ودفعت الشركات الأجنبية إلى تدريب عمالها غير المهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات والبتروكيماويات والإلكترونيات. أما العمال الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظائف صناعية، فقد ألحقتهم الحكومة في قطاع الخدمات، كالسياحة والنقل. وبحلول العام 2001 أصبحت الشركات الأجنبية تمثل 75% من الإنتاج الصناعي و85% من الصادرات الصناعية.
يتكون المجتمع السنغافوري من 80% من الصينيين، و14% من المالاي، و8% من الهنود، و1% من الأورآسيويين والأعراق الأخرى. ولذلك أجبرت الدولة كل العروق والأديان على السكن بمناطق واحدة والى التعلم والعيش مع بعضهم البعض، أي أن كل مبنى أو كل مدرسة عليها أن تضم كافة الأعراق والشعوب بحسب نسبتهم في البلاد وأصدرت لدولةقوانين صادمة تمنع بأي شكل من الأشكال كل شخص من توجيه أي إهانة أو كلمة جارحة لشخص من ديانة أو عرق مختلف. وحالياً تعتبر سنغافورة أحد أغنى دول العالم على الإطلاق. ويصنف الاقتصاد السنغافوري في المرتبة 39 في قائمة أقوى الاقتصادات عالمياً، بالإضافة الى أنها من أكثر البلدان سياحة حيث يزورها 17 مليون زائر سنوياً، أما التعليم فيها فيعتبر أيضاً من الأفضل، وفي الترتيب العالمي للجامعات لسنة 2016/2015 فاحتلت جامعة سنغافورة الوطنية المركز 12 على مستوى العالم.