قطعت الموازنة ساحة النجمة، فهل تقطع في بعبدا؟ سؤال شرّعه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عندما قال “فلتسقط كل الموازنة إذا كان الأمر كذلك”، تعليقاً على عدم إسقاط الهيئة العامة لمجلس النواب المادة التي تحفظ حقّ الناجحين في مجلس الخدمة المدنية، كما طالب، والتي لم يجرِ التوافق عليها. وقد جرى بحسب أوساط التيار الوطني الحرّ تهريبها مرّتين، مرّة بتمريرها خلسة الى الهيئة العامة ومرّة بعدم تلاوتها أمام النواب. وهو الأمر الذي عاد ليثير موجة من المخاوف في الأوساط الإقتصادية ويطرح تساؤلات عن الكلفة التي يتحمّلها الإقتصاد بدل الوقت الضائع.
صحيح أنها لم تكن الأفضل على الإطلاق. وهي لم ترضِ شريحة كبيرة من رجال الأعمال والمستثمرين والمصرفيين، فضلاً عن المواطنين الذين تحملوا
كل أعبائها. ولم تتضمن خطاً إقتصادياً فاصلاً بين معاناة القطاع الخاص من عجزي الموازنة والميزان التجاري، وما يسببانه من إرتفاع بأسعار الفوائد وتراجع القدرتين الانتاجية والشرائية، وبين ترشيق الدولة وترشيدها بما يضمن استمراريتها ويعزز إنتاجيتها. إلا أن هذه الموازنة التي وجدت بجهد صانعيها الذين، هم أنفسهم يعترضون عليها اليوم بعد أن شاركوا في إعدادها والتصويت عليها البارحة لن تؤجل المشكلة إلا شهوراً، أو ربما أياماً.
عدم توقيع رئيس الجمهورية على قانون الموازنة يعيدها حكماً إلى المجلس النيابي الذي يعيد بدوره درسها وإقرارها وعندها تصبح نافذة حكماً. إلا أن هذه العملية تنطوي على مخاطرات كثيرة أولها تعريض الموازنة إلى فقدان الميثاقية في حال عدم تصويت كتلة رئيس الجمهورية، خصوصاً بعد رفض القوات التوقيع عليها. وثاني هذه المخاطر الإنقسام العمودي بين مختلف الاطراف السياسية وتحديداً بعد حادثة البساتين. وثالثها وليس آخرها مراجعة النواب لمواقفهم منها، بعد بروز عوراتها الكثيرة ونية أكثر من فريق تقديم طعون بموادها أمام المجلس الدستوري. وفي جميع الأحوال فإن هذه العملية تتطلب وقتاً لا أحد يستطيع تقديره وهذا “ما سيرتب تبعات سلبية على مداخيل الدولة، وعدم توفير الإيرادات الموعودة من الإجراءات الضريبية “، يقول الخبير الإقتصادي غازي وزني، ويضيف أن “أول مشكلة نقع فيها، هي الإضطرار الى إقرار قانون جديد يجيز للحكومة الإستمرار بالصرف على القاعدة الإثنتي عشرية. حيث أن المجلس أجاز بقانون سابق الصرف على هذه القاعدة لغاية نهاية تموز فقط”، وإن لم يجر إقراره فستنعدم قدرة الدولة على دفع الرواتب والمستحقات وسيقع البلد في مطب خطير.
“رغم كل التحفظات عليها، فان عدم اقرارها يعتبر نكسة أمام المجتمع الدولي، الذي يراقب بحذر تطور المسار المالي والنقدي في لبنان، والذي على أساسه يحدد الإستمرار بمقررات سيدر أو عدمه”، يقول رئيس غرفة التجارة الدولية وجيه البزري، ويضيف أن “المشكلة الأساسية تكمن في وضع القطاع الخاص تحت خيارات أحلاها مر، كأسعار الفوائد المرتفعة، وضعف القدرة الشرائية عند المواطنين، وعوائق التصدير وغيرها الكثير من الإجراءات التي فرضت علينا نتيجة عجز الدولة، واستمرار الخلافات السياسية”.
ما يؤثر بشكل مباشر على مالية الدولة والقطاعات الإنتاجية لم يصل بعد إلى السياحة. فهذه “السلعة الحساسة”، بحسب وصف رئيس نقابة وكالات السياحة والسفر جان عبود، “سريعة العطب، وتتطلب جواً من الإستقرار والهدوء، ولا تتعطل إلا بتصاعد حدة الخلافات وبدء التهديدات، فالصورة السيئة تنتشر سريعاً عبر وسائل الإعلام وتؤثر على الحجوزات وقدوم السياح”. وعلى الرغم من مآخذنا على الموازنة، لجهة تخفيضها حصة وزارة السياحة بحدود 6 مليارات ليرة، إلا أن اعادتها الى مجلس النواب وعودة الخلاف عليها سيولّد مشكلة نحن بغنى عنها”، يقول عبّود.
“المشكلة الوحيدة بعدم إقرار الموازنة، قد يكون معنوياً أمام المؤسسات الدولية، أما عدم توقيعها والسير ببنودها فهو إيجابي على المستويات كافة”، يقول رئيس مجلس إدارة “براكس بتروليوم” جورج براكس، ويضيف: “هذه الموازنة بما حملته من ضرائب ورسوم على المواطنين والقطاعات الانتاجية يجعل منها واحدة من أسوأ الموازنات وأكثرها ضرراً. فهل يعقل، مثلاً أن تُفرض ضريبة على المولدات الخاصة بقيمة 50 الف ليرة على كل KVA؟ فهذه الضريبة تصبح 25 مليون ليرة سنوياً على مولد بقوة 500 KVA أو ما يعادل نصف قيمة المولد. فهل هذا منطقي؟ أما ظهور المادة الخلافية حول حفظ حقوق ناجحي مجلس الخدمة المدنية، فيعدّ بمثابة سقوط ورقة التين التي أظهرت “عورات” هذه الموازنة والطريقة التي أديرت بها الأمور لشهور، حتى صح عليها تسمية “موازنة الأمر الواقع”، فإن لم توقّع مشكلة وإن وُقعت فالمشكلة أكبر.
وبين تلك المشاكل يكافح المواطنون يومياً للحياة، ويجاهد القطاع الخاص للصمود، والدولة تمتص الكفاح والجهاد وتضعهما في صندوق خاص. فهل تسقط الموازنة ميثاقياً، أو تنتشل؟ وبأي ثمن؟