فجرت كلمة رئيس جمهورية لبنان ميشال عون في الاحتفال السنوي بعيد الجيش الأجواء المشحونة سياسياً واقتصادياً، وما إن تحدث عن تضحيات وتخلٍّ عن المكتسبات قبل فوات الأوان، حتى قرأت الوكالات الدولية في التصريح طرح إمكانية الاستعانة بالمؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي، ما يعني بدوره عدم قدرة لبنان على الاستمرار بتمويل الدولة من دون المساعدة المشروطة بإجراءات قاسية.
كل ذلك في وقت يترقب لبنان، وبعد أقلّ من 20 يوماً تصنيف وكالة ستاندارد آند بورز الذي اكتسب أهمية كبرى نظراً إلى كونه مصيرياً، فبعد خفض وكالة موديز لتصنيف لبنان من B3 إلى CAA1، أي خفض جديد يعني خفض تصنيف لبنان السيادي إلى الدرجة غير الاستثمارية وما يترتب على ذلك من أعباء مالية ومخاطر، لبنان بغنى عنها، وهو الجاهد للخروج من أزمة مالية مستفحلة عبر إعادة الانتظام المالي إلى مؤسسات الدولة، وأول الغيث إقرار موازنة عام 2019 التي استغرقت مناقشتها أشهراً.
تصريح فسرته الأسواق على أنه إعلان أو تمهيد إلى إمكانية توجه لبنان لطلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي، فزاد ارتفاع تكلفة التأمين على ديون لبنان السيادية إلى مستوى قياسي في ظل ارتفاع المخاوف من عدم قدرة لبنان على الوفاء بالتزاماته بوجه شح التمويل، وعلى الرغم من نفي المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية هذا الافتراض، إلاّ أن المخاوف في ظل التعطيل الحكومي بقيت مرتفعة.
أوضح وزير الاقتصاد السابق المنتمي إلى كتلة رئيس الجمهورية رائد خوري لـ “اندبندنت عربية” أن رئيس الجمهورية المدرك للأزمة التي يمر بها لبنان والمصاعب التي تنتاب المواطن، أراد من خلال خطابه التنبيه لعدم الوقوع في المحظور وما هو أقسى، وليس الإعلان أو التأكيد أو التلميح إلى أن لبنان متجه إلى طلب المساعدة.
وأضاف خوري أن عون أشار إلى مسار يجب تجنّبه وبالإمكان تجنّبه وليس مساراً يصل لبنان إليه بالتأكيد، فلا يُخفى على أحد كتلة الدين وخدمة الدين أيضاً، إلاّ أن العمل على احتوائها جار، ولعل التعطيل السياسي أسوأ ما يمكن أن يحصل اليوم بعد الجهد لإقرار موازنة مقبولة. كما أراد رئيس الجمهورية، بحسب خوري، الالتفات إلى موازنة عام 2020 التي يجب أن تكون تقشفية لاستكمال مسار الإصلاحات وليس التوجه إلى المؤسسات الدولية.
النظام المالي حالياً منتهي الصلاحية
ورأى خوري أن النظام المالي اللبناني الذي جرى اتّباعه بعد الحرب الأهلية انتهت صلاحيته، وآن الأوان إلى الانتقال من اقتصاد مبني على التحويلات الواردة إلى لبنان، إلى اقتصاد مبني على الإنتاج الداخلي. وبحسب خوري، كل دولار يُصرف في لبنان يُستقطع 80 في المئة منه إلى الخارج بمنظومة لا تستطيع الاستمرار بعد اليوم، فالخط الوحيد للنهوض هو النمو بالاقتصاد داخلياً عبر دعم القطاعات الإنتاجية.
وتحدث خوري عن الحجم الكبير للدولة اللبنانية بموظفيها، فنسبة 35 في المئة من موازنة الدولة تُصرف كرواتب وأجور بمستوى هو الأعلى عالمياً. وركز على أهمية معالجة الهدر والفساد، كاشفاً عن أنه جرى تقديم مقترح في هذا الإطار لمرفأ بيروت عبر تلزيم شركة خاصة للتدقيق بالبضائع الواردة إلى المرفأ، ما يقلّص إمكانية التهرب الضريبي عبر بيانات خاطئة، وهو إجراء يُدخل إلى خزينة الدولة أقله 500 مليون دولار سنوياً.
وعن المعابر غير الشرعية، تابع خوري، أنها بانتظار توافق سياسي قد يكون غير بعيد.
الحاكم يدخل على خط خفض التصنيف
وتخشى الأوساط المالية كافة في لبنان من الوقوع في فخ خفض تصنيف لبنان السيادي ولا سيما من وكالة ستاندرد آند بورز التي ستصدر حكمها في 23 أغسطس (آب) الجاري. إجراء إن حصل، يزيد المتاعب المالية التي يتخبط فيها لبنان ويسعى إلى الخروج منها، ما استدعى تدخل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تشير أوساطه إلى بدئه اتصالات دولية لتطمين المجتمع الدولي وإقناعه بإعطاء لبنان فرصة للعمل قبل زيادة الضغوط عليه.
وقد يبادر الحاكم بزيارات إلى مراكز القرار، ساعياً إلى تأجيل أي خفض للتصنيف بالنظر إلى الجهد الذي أبداه السياسيون في المرحلة الماضية بانتظار التنفيذ والاستمرار بنهج خفض عجز الموازنة وإدارة الدين. خفض جديد لتصنيف لبنان من قبل وكالة أخرى بعد موديز، يكرس تصنيف لبنان السيادي عند مرتبة C، ما يعني أن سندات لبنان أصبحت غير استثمارية ومخاطرها عالية وبالتالي ترتفع أسعار الفائدة المطلوبة على سندات لبنان.
تثبيت الفائدة
ومن التداعيات المحتملة بحسب وزير الاقتصاد السابق أولاً تثبيت الفائدة عند مستوياتها المرتفعة حالياً، ما يكرس ضعف الاقتصاد لمرحلة طويلة. ومن المخاطر أيضاً، يتحدث عن مشاكل محتملة مع المصارف المراسلة وفتح الاعتمادات التي ستجرى على قاعدة تصنيف C فإذا بادر بعض هذه المصارف إلى وقف تعامله مع لبنان، سيسبب ذلك شللاً للوضع الاقتصادي، كما أن خفض التصنيف يتطلب إعادة رسملة المصارف اللبنانية في زمن شح السيولة والاستثمار، إضافةً إلى ارتفاع تكلفة ديون لبنان، ما يرفع الدين ويزيد وتيرة التراجع الاقتصادي.
ولبنان لم يتخلف منذ نشأته عن التزاماته تجاه الخارج ولن يتخلف اليوم، بإجماع سياسي وتأكيد من المصرف المركزي، والرهان على تخطي السجالات السياسية الضيقة للبدء بحسن تطبيق الموازنة والتطلع إلى صدمات إيجابية تعيد إطلاق العجلة الاقتصادية.