مدروسًا في تسلسله، البيان الذي صدر الجمعة الماضي، بعد الاجتماع المالي الموسّع الذي عقد في بعبدا عَقِب “لقاء المصارحة والمصالحة” المتعلق بأحداث قبر شمون: “تنقية الأجواء السياسية. والمصارحة والمصالحة، والعودة إلى انتظام عمل المؤسسات، والتشديد على ضرورة الالتزام بالمحافظة على الاستقرار السياسي والحدّ من المشكلات. والتزام واضح باستمرار الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة والاستقرار الائتماني. والعمل على خطوات أساسية تسهم في تفعيل الاقتصاد، وتعزيز وضع المالية العامة، والمباشرة بمناقشة تقرير ماكنزي والملاحظات المقدَّمة عليه من الأطراف كافة”. إنتهى الاقتباس وبقي التنفيذ.
توقفنا قبل الاجتماع عن حِسبة الأرقام والمؤشرات المالية والاقتصادية. ففي البحر الهائج، لا يأبه ركّاب السفينة لعديد الأمواج. يخشون فقط أن تبتلعهم إيّاها. بيان الاجتماع المالي بدأ بالسياسة والاستقرار. وأقرّ بما لايدع مجالًا للشك، بأن جذر الأزمة المالية والاقتصادية سياسي بامتياز، عطّل عمل المؤسسات في انتظام وسيعاد إحياؤه من جديد. الخطوة الأولى تكون في استئناف جلسات مجلس الوزراء وفقًا للدستور. والدستور فقط، بلا عنتريات سخيفة ولا أباطيل. وكي تعود المؤسسات إلى العمل يفترض سد الشغور في المراكز الرئيسة حدًا أدنى. تعيين نواب حاكم مصرف لبنانالأربعة الذين خلت مراكزهم في 30 آذار 2019، وتعطّل عمل المجلس المركزي، الهيكل التقريري والتنظيمي في المصرف. والثاني وليس على سبيل التراتب، استكمال عقد المجلس الدستوري وبقية المراكز الأخرى الشاغرة في مؤسسات الرقابة والهيكل الإداري للقطاع العام. في مقدمها ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي والجسم الوظيفي في إدارة المناقصات العامة.
لا يمكن مهما بلغنا من السذاجة وخِفة العقل، أن نتحدث عن دولة بهذه النوعية من الشغور، تتصل بالمال العام، والمحاسبة، والشفافية، وانتظام العمل المؤسسي الذي تناوله بيان بعبدا بالذات. ونصرّ على وجود رابط بين هذا الشغور العَمد وبين الأزمة التي استفحلت.
إستئناف جلسات مجلس الوزراء من دون سد الشغور، ولا نتائج جِدّية تصدر عنها تعيدنا إلى المربّع الأول. التأكيد على الاستقرار النقدي، ودعوة مصرف لبنان إلى تجاوز دور الوسيط لوزارة المال بينها وبين الدائنين، والطلب إليه ما ليس له طاقة على تحمله من استمرار تقديم المال السهل، وفي غياب المجلس المركزي، أمرٌ غريب عجيب لا تفسير له في خانة النوايا الحسنة. وفي المجلس المركزي لمصرف لبنان الاستحصاص موجود للطائفة والمذهب. الدستور موفور و”الميثاقية المطّاطة الملعونة” مصونة أيضًا. وعلى ما علمنا أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغ المعنيين باستحالة تأمين القرض التريليوني بفائدة 1 في المئة من دون مجلس مركزي. وليس في الضرورة أن يتأمن بعد اكتمال المجلس. ومن يدري، قد يبتكر سلامة هندسة مالية متقاطعة، لا يفكّ طلاسمها إلاّ سلامة نفسه!
سيناريوان نقديان
أن يؤكد حاكم مصرف لبنان استقرار الوضع النقدي وسعر صرف الليرة اللبنانية، فإنمّا يستند إلى معطيات نقدية متاحة. لكنها معطيات ليست مفتوحة بلا شروط ولا روزنامة. المتاح من تلك المعطيات يستند إلى ما يمكن اعتباره ركائز آنية قابلة للتغير في الاتجاهين. إيجابًا وسلبًا. أولى تلك الركائز في الجانب الإيجابي، لكون الدولرة في الودائع المصرفية بلغت نحو 73 في المئة من الودائع الإجمالية. والباقي نحو 23 في المئة بالليرة اللبنانية. والثانية أن موجودات مصرف لبنان وليس احتياطه الصافي، يمكن أن تغطي نحو 76 في المئة من الكتلة النقدية بالليرة لو تحولت تلك الكتلة طلبًا على الدولار الأميركي والعملات الأجنبية. وتغطي تلك الموجودات فاتورة استيراد لبنان 21 شهرًا. يتعزز الجانب الإيجابي في حال الاستقرار السياسي والأمني وإعمال المؤسسات، بما يتيح تحسن تحريك الاقتصاد، وتغيير المسار الانحداري في التدفقات النقدية، وميزان المدفوعات الذي سجّل نحو 5.4 ملايين دولار أميركي عجزًا حتى أيّار 2019. لكن حاكم مصرف لبنان يتوقع أن يكون قد توازن في حزيران. مع ميل نحو فائض في تموز الماضي (الأرقام الرسمية لم تجهز بعد). ويتوقع سلامة نقلًا عن المصرف الدولي، 7 مليارات دولار أميركي تحويلات من الخارج في 2019. أمّا الجانب السلبي يكمن في العجز المالي. مصنع الذخيرة المعادية لليرة واستقرار سعر الصرف والاستثمار. في حال لم تلتزم الحكومة عجز موازنة 2019 المقدر بنحو 7.5 في المئة، وعادت إلى اقتراض المال السهل من مصرف لبنان ومن المصارف التي لم تعد شبابيكها مشرعة لتمويل الدولة كما في السابق، ستستيقظ المخاوف على سعر الصرف، وتضيق خيارات السياسة النقدية وأدواتها التقليدية وغير التقليدية لجبه الضغوط.
لو قُدرّ للسيناريو السلبي هذا أن يتحقق، فسيؤسس لائتلاف المساوئ. مرحلة من الركود والتضخم والفوائد والبطالة المعمّمة. لن نستفيض في هذا المجال. لا نريد أن نسهم في ما وصفه حاكم مصرف لبنان “صناعة اليأس”. لكن غاب عن باله أن صناعة التملّق والرياء في لحظات تستوجب الحقيقة والشفافية، لا تقل خطورة عن صناعة اليأس. السيناريوان الإيجابي والسلبي قرار سياسي في يد الجمهورية والحكم والحكومة. لو عُدنا إلى جلسات مجلس الوزراء، لاستئناف فصل جديد من فصول اقتسام المنافع والزبائنية، والشبق السلطوي تنافسًا على المناصب والمراكز، فإنه اليأس عينه وفقدان الثقة. إذ يكفي في لحظة هدؤ سياسي واستقرار نسبي، أن ينعق علينا واحدٌ من صنيعة أنظمة الإستخبارات الإقليمية والدولية بتصريح أو موقف، حتى يعكر الاستقرار ويقلب المناخ. لذلك، فإدراج الاستقرار في مقدمة بيان الاجتماع المالي يحتاج إلى ترجمة سياسية وحكومية. والاستقرار النقدي بات فريضة على المالية العامة والتزام الحكومة تعهداتها في موازنة 2019 البائسة المحزونة، بؤس اقتصاد لبنان وأحزان شعبه.
تقييم توقعات المشاريع
وفي انتظار صدور إشارة ما من ادارة مؤتمر سيدر وفرنسا تحديدًا، المولجة تنسيق ملف التعهدات المالية، لبيان الموقف من موازنة 2019 وتوقعاتها، وبالتالي لإطلاق المرحلة الأولى من المشاريع، نحن أحوج ما نكون إلى تقييم النتائج الاقتصادية المرتقبة على وقع تنفيذ تلك المشاريع. تقديرات القيمة المضافة، وحصة الصناعة اللبنانية من التوريد، وفرص العمل للبنانيين، وأثر التدفقات النقدية في مراحلها تباعًا، وتأثيرها على التوقعات الاستثمارية في المدى القصير والمتوسط. ويشمل ذلك خطة الكهرباء، وإشراك القطاع الخاص في مشاريع البنية التحتية وقطاعات الخِدمات.
ظني، أن عين دول سيدر ووكالاتها، باتت على موازنة 2020. لتفادي ما سقط من موازنة 2019، ولإرسال إشارة جِدّية واحدة على الأقل، تشي بأن الحكم في لبنانمدرك حجم الأزمة. وجادٌ في التصدي لها باصلاحات لا تأتي قِسرًا لقاء التمويل، بل قناعة لقاء الشعور بالمسؤولية وتهيبها.