يوماً بعد يوم يزداد الوضع المالي والنقدي تعقيداً، حيث لم يعد تأليف حكومة جديدة يشكّل حلاً للأزمة الراهنة، لأنّ الضغوطات الداخلية ستتفاقم جرّاء الانكماش الاقتصادي الذي عَمّقته أخيراً القيود المفروضة على رأس المال.
تواجه المصارف ضغوطات متزايدة جرّاء تفاقم أزمة شحّ السيولة لديها، وتصاعد حدّة التوترات في صفوف عملائها الراغبين بسحب دولاراتهم، ما دفعها الى اتخاذ عيد المولد النبوي الشريف محطة للاقفال بدءاً من اليوم، على رغم انّ الادارات العامة حَددت يوم الاثنين فقط عطلة رسمية. فهل تستمرّ المصارف بالاقفال في حال لم يؤمّن لها مصرف لبنان السيولة النقدية لتيسير أعمالها؟
مع بدء القطاع المصرفي بفرض قيود على رأس المال بشكل غير رسمي (Informal Capital Control)، مثل منع التحويلات الى الخارج والحَدّ من عمليات السحب النقدي، من المرجّح أن يتبع ذلك سياسة صارمة أكثر سيُعمّمها مصرف لبنان على المصارف من أجل تشديد القيود على كافة المودعين من دون استثناء.
وإذا كان من المعلوم انّ القيود على رأس المال قد توقِف النزيف المالي فقط ولن تعالج جوهر الأزمة، فإنها في المقابل ستؤدّي الى ضمان عدم دخول أي أموال جديدة (Fresh Money) الى لبنان، كالتحويلات وغيرها، والتي يتّكل عليها النظام المصرفي بشكل أساسي لتمويل حاجات الدولة ومنعها من السقوط والتخلّف عن السداد.
في هذا الاطار، رأت كبيرة الاقتصاديين في مصرف «جيفريز إنترناشيونال»، علياء المبيّض، أنّ فرض قيود على رأس المال كان أمراً ضرورياً للحدّ من خروج الاموال، وإن أتى متأخّراً، «لكنّ تلك الضوابط الاستنسابية غير كافية للتخفيف من الضغوط على سعر صرف الليرة».
وأوضحت لـ»الجمهورية» أنه عندما يتم فرض قيود على رأس المال في خضمّ أزمة مالية ما، فمن الأفضل أن تكون تلك القيود شاملة (comprehensive)، ويتم تطبيقها بصرامة شديدة وعبر آليّة شفافة، يرافقها أو يلحق بها فوراً تطبيق جدّي للاصلاحات وتصويب للسياسات الاخرى بشكل مُتلازم ضمن سلة متكاملة من السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية. وتَمنّت مبيّض لو يتم تطوير الضوابط على رأس المال وصياغة السياسات بهذا الاتجاه وضمن مقاربة شاملة، لكي تتم إزالة هذه الاجراءات الاستثنائية بأسرع وقت ممكن، والتخفيف من آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي.
كما اعتبرت انّ اعتماد سياسة الـ Capital Control لمنع خروج الاموال وحماية احتياطي العملات الاجنبية ولَجم التغيّرات في سعر الصرف، يُبنى عادةً على دراسة معمّقة لحاجات القطاعين العام والخاص من النقد الأجنبي، وتوضَع الإجراءات بشكل يسمح بالتخفيف من حدّة الأزمة على القطاعات الاستراتيجية التي تساهم في نمو الاقتصاد قدر الإمكان. وذكرت انه عندما وضعت مصر، خلال ثورتها، ضوابط على رأس المال، تمّ تحديد أولويات واضحة للتخفيف من حدّة هذه الضوابط على القطاعات المنتجة في الاقتصاد المصري. وشرحت أنه «إذا استمر شَحّ السيولة الدولارية، تحاول السلطات والمصرف المركزي تأمين خطوط ائتمان طارئة أو استثنائية لملاقاة هذه الحاجات. وليس مُستبعداً أن يقوم مصرف لبنان بذلك، بالتعاون مع الحكومة وبالتنسيق مع بعض الجهات المانحة».
وأوضحت مبيّض انّ القيود على رأس المال لا تعني انعدام التدفقات المالية الى الداخل بشكل تام، فبعض الدول، مثل مصر، قامت بتنظيم هذه العملية عبر آلية تسمح بتحويل الاموال الى البلاد، وتخصيص حساب خاص لها لدى البنك المركزي يسمح بإعادة إخراجها من البلاد من دون أي مشكلة. إلّا أنّ هذه الإجراءات أعطت ثمارها بشكل اكثر فعالية، عندما قامت الحكومة المصرية باعتماد سياسات للتصحيح المالي، وتطبيق إصلاحات هيكلية ساهمت بطَمأنة المغتربين والمستثمرين وحَثّهم على الاستمرار في تحويل أموالهم.
وفي هذا السياق، أشارت مبيّض الى انّ الضغوطات على الاقتصاد اللبناني قد تتزايد كلما استمرت الضبابية وعدم اليقين اللذين يؤديان الى تراجع التدفقات المالية، «فبالنظر الى تجارب بلدان أخرى، من المنتظر أن تتفاقم الضغوطات الداخلية جرّاء الانكماش الاقتصادي الذي سيؤدي الى زيادة نسبة القروض المتعثرة، ما سيضطر المصارف الى رفع مخصّصاتها في وقت تمرّ الأخيرة بأزمة سيولة من جهة، وتعاني جرّاء تدهور نوعية أصولها المكشوفة على المخاطر السيادية وميزانية مصرف لبنان. إلّا انّ الوضع قد يختلف في حال حصل لبنان على برنامج دعم من المجتمع الدولي يضمن له الحصول على تمويل من الخارج، لكنّ هذا الامر مرتبط بإمكانية تشكيل حكومة وببرنامج عملها الاقتصادي».
وفيما توقعّت الصناديق الاستثمارية الدولية أنّ هذه الضغوطات قد تُسرّع في تشكيل حكومة تضمّ أصحاب كفاءات لإدارة المرحلة المقبلة، وتعطي «شرعية مجتمعية» للاصلاحات والاجراءات المؤلمة المنتظرة، قالت مبيّض إنّ تحذيرات المانحين وتخفيض التصنيفات الائتمانية لم تلق آذاناً صاغية بعد، ورغم الارتفاع الخطير في كلفة الاستدانة من الأسواق، فإنها لم تحرّك ساكناً.
برنامج من صندوق النقد
وحول إمكانية طلب مساعدة صندوق النقد الدولي عبر برنامج إنقاذ للبنان، إعتبرت أنّ ذلك لن يكون أفضل الحلول في ظل غياب التوافق السياسي والمجتمعي حوله. فالمناكفات السياسية التي عَطّلت الاصلاح وأخّرته في السابق قد تهدّد هذا المسار، وقد تضع أي برنامج محتمل مع الصندوق في المستقبل Off-track، ما قد يزيد كثيراً نسبة المخاطر. لذا، من الأهمية أن يستدرك المسؤولون في أي حكومة جديدة ذلك، وان يضعوا المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ويسلّموا مهمة صياغة برنامج للاسقرار الاقتصادي والتصحيح المالي للسنوات الخمس المقبلة، لفريق عمل لبناني لديه الكثير من الكفاءة والنزاهة والخبرة في التعاطي مع المواطنين في الداخل، ومع المانحين والأسواق المالية في الخارج، كما شهدنا في العام 1999 في ظل حكومة الرئيس سليم الحص مثلاً، أو في بلدان أخرى.
Hair Cut
وأوضحت أنّ ما يتم تداوله حول ضرورة الشروع بعملية Hair Cut على الودائع أو أصول المصارف لا يمكن أن يكون حلاً فردياً، «بل نحن بحاجة الى برنامج متكامل ومتلازم يشمل إصلاحاً مالياً على مستوى الايرادات والنفقات لتحقيق فوائض أوليّة تكون ممكنة سياسياً واجتماعياً. وسيتطلّب البرنامج أيضاً إعادة هَيكلة الدين العام، وإعادة النظر بمستوى الفوائد وبسعر صرف الليرة مقابل الدولار، ولكن في الوقت المناسب وبشكل يحدّ من عبء خفض سعر الصرف على ذوي الدخل المحدود». ورأت مبيّض أنه يجب، في مقابل تلك الاصلاحات المالية، اعتماد سياسات اجتماعية توسّع من شبكات الأمان الاجتماعي بشكل يَحفظ الامن الاجتماعي ويخفّف من حدّة الأزمة على المواطنين. معتبرة انّ إدارة هذه المرحلة الاصلاحية تتطلّب وجود فريق كفوء قادر على التعاطي مع المجتمع الدولي، وذات مصداقية تمكّنه من توعية المواطنين حول صعوبة المرحلة المقبلة التي تتطلب الحصول على المقبولية الاجتماعية الضرورية لهذه الاصلاحات.