لم يعد التكابر أو التكاذب ينفع في طمس الحقائق المالية القائمة. مصير البلد وناسه، مصير الودائع في المصارف، وربما مصير الوضع الامني، ربطاً بالوضع الاجتماعي، كلها مصائر ترتبط بعامل واحد يحدّد مسارها دون سواه، اسمه الوقت.
في معرض توصيفه للوضع اللبناني في العام 1985، كان الوزير الراحل ميشال إده، صاحب الرؤية الثاقبة، يقول اننا بتنا مثل اليهود الروس. هؤلاء لا يدفنون موتاهم إلّا بعد أن يأتي الشمّاس وفي يده عصا مسنّنة الرأس، يطعن بها جثة الفقيد على مرأى من أهله، ويناديه باسمه: يا فلان. لا يجيب. ثم يطعنه مرة ثانية فثالثة وبقوة اكبر ويناديه باسمه بصوت أعلى، فلا يجيب. عندها يقول الشماس: إعلَم يا فلان انك ميت. ثم ينظر الى أهل الفقيد ويقول لهم: لقد أبلغته انه مات، باستطاعتكم إجراء مراسم الدفن.
هذا الكلام للوزير الراحل، سمعته عبر اذاعة صوت لبنان التي بثّت مقطعاً من مقابلة مع ميشال إده، في ذكرى غيابه. اليوم، وبعد حوالى 34 سنة، السؤال مشروع: هل هذا التوصيف ينطبق على الواقع اللبناني؟
الجواب لا. والحقيقة اننا لم نعد نملك ترف إعلان الوفاة في الوقت المناسب لتكريم الميت من خلال دفنه. صحيح ان الجثة موجودة، لكننا نختلف على توقيت أو ضرورة استدعاء الشماس لإعلان الوفاة.
البعض يظن ان الفقيد حي، وان هناك من طلب منه لعب دور الميت. آخرون يعتقدون ان الناس لا يعرفون انه مات، وبالتالي يريدون تدبير بعض القضايا المتعلقة بالوراثة قبل الاعلان. وهناك من يؤمن بإحياء الاموات، ولا يريد دفن الجثة، بانتظار عودة الروح الى الفقيد…
هذا الكلام المجازي، وإن بَدا ثقيلاً على البعض، إلّا أنه مع الأسف يعكس الواقع الاقتصادي والمالي بدقة متناهية. ومن يشكّك يستطيع أن يراجع الحقائق المستجدة التالية:
أولاً – أصبح مصرف لبنان، ومن خلاله الكيان اللبناني الرسمي، جهة غير موثوقة ولا يمكن التعامل معها على المستوى المصرفي العالمي، بدليل انّ المصارف العالمية لم تعد تسمح له بفتح اعتماد لاستيراد الفيول لمصلحة وزارة الطاقة.
ثانياً – بعيداً من وكالات التصنيف العالمية الثلاث التي خفّضت تصنيف لبنان الائتماني الى أدنى الدرجات اللصيقة بدرجة الافلاس (Default)، أُنجز في الفترة الأخيرة تصنيف لم يخرج الى العلن قامت به مؤسسة مالية، يستفيد من تقاريرها مستثمرون كبار في العالم، قد تكون لهم مصالح مع لبنان. يُبيِّن هذا التقرير أوضاع المصارف اللبنانية، كل مصرفٍ على حدة. من يقرأ هذا التقرير يعرف انّ بعض المصارف أصبح في وضع غير مُريح.
ثالثاً – عندما يطلب رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري العون من الدول الصديقة لمساعدة لبنان على فتح اعتمادات لشراء المواد الاولية، فهذا يعني ان لبنان، ومن دون تدخّل خارجي، يواجه نوعاً من أنواع الفقر المدقع القريب من توصيف المجاعة.
رابعاً – عندما تجازف المصارف اللبنانية بتدمير سمعتها والثقة بها، وتجازف أيضاً بمصيرها من خلال إغلاق الحنفية على كل القطاع الخاص، وتلعب بمصير قروض تبلغ قيمتها حوالى 60 مليار دولار قد تصبح هالكة، بما يعني ما يعنيه بالنسبة الى مصير المصارف، في هذه الحالة، من السخيف البحث عن الاسباب التي حَدت بالمصارف الى اتخاذ هذه الاجراءات، بالنسبة الى سقوف السحب النقدي، خصوصاً بالعملات، والاعتمادات والقروض… فهل من يصدّق بعد أنّ هذه الاجراءات اختيارية، وانّ إدارات المصارف تمارس هواية تدمير السمعة وتدمير الذات؟
في التوصيف الحالي للوضع، دخلت الدولة في دائرة الافلاس، لكنها عالقة في عنق الزجاجة، وغير قادرة على إعلان الافلاس لكي تستفيد من الفرص التي يتيحها الافلاس الرسمي للدول المتعثرة. والسبب انّ البلد يحتاج حكومة قادرة على التفاوض على خطة إنقاذ للتمكّن من إعلان الافلاس. هذه الخطة لا يمكن أن تُقر أو تنفّذ من دون رعاية خارجية.
السلطة السياسية فقدت مصداقيتها منذ سنوات طويلة، وكان الاعتماد يتركّز على قدرة مصرف لبنان والمصارف التجارية على لعب دور «بَدل عن ضائع»، لأنّ الثقة بهما كانت مرتفعة. اليوم، نجحت السلطة السياسية من خلال تراكمات وجرائم لا يصدقها العقل، الى جَر المصارف والمركزي الى الجورة القابعة فيها السلطة نفسها منذ فترة طويلة. أصبحنا جميعاً في الحفرة.
ولمَن يسأل لماذا استعجال إعلان الافلاس ما دمنا أصبحنا في الحفرة ولا شيء نخسره؟ لهؤلاء من الضروري أن نذكّرهم انه عندما وصلت اليونان الى الافلاس، وبدأت تنفيذ خطة الانقاذ التي «فرضتها» عليها الدول الاوروبية وصندوق النقد، ومن ضمنها الـHaircut الاختياري، بحيث خيّرت حملة سنداتها بين الاستمرار في حمل هذه السندات بانتظار أن تعود الاسعار الى طبيعتها، (استغرق الأمر حوالى 6 سنوات)، وبين الموافقة على قبض ثمنها في موعد قريب ومحدّد، بسعر السوق. في حينه، كانت أسعار سندات الدين اليونانية آنذاك أقل بحوالى 30 في المئة من سعرها الاسمي.
هذه هي النسبة التي اختار بعض المستثمرين في السندات اليونانية خسارتها (Optional haircut) مقابل ضمان الحصول على المال في موعد ثابت. في الحالة اللبنانية، خسرت سندات الدين حتى الآن حوالى 40 في المئة من قيمتها. واذا استمر الوضع الحالي لفترة أطول، ستواصل الأوراق اللبنانية خسارة المزيد من قيمتها في الأسواق. فهل يستطيع من في يده القرار، أن يتصوّر قساوة الاجراءات المطلوبة للخروج من الأزمة اللبنانية في وضعها الحالي.
وهل يستطيع أن يتصوّر كيف ستصبح هذه الاجراءات المطلوبة اذا طال الوقت، ولم نشكّل حكومة لنصبح قادرين على إعلان الافلاس وطلب المساعدة، في توقيت مقبول؟
أنطوان فرح – الجمهورية