اقتصاد الأزمات علم بذاته، في الانهيار المالي والنقدي، ثمّة من بدأ يحقق أموالاً طائلة، تماماً كما يفعل تُجّار الحروب. ليست المضاربات على العملة سوى عمل مبتدئين. الأهم هو تجارة الشيكات المصرفية. حتى لو كنت تملك شيكاً بملايين الدولارات ستجد من يصرفه نقداً، بمعدل عمولة 20 في المئة. من أين تأتي كل تلك الأموال النقدية في زمن شحّ الدولار؟ لا إجابات واضحة، لكن كل الطرق تقود إلى المصارف.
المصارف تزداد تغوّلاً. تخطّت مرحلة القلق من ردود أفعال المودعين على حرمانهم من أموالهم. حتى الموظفون صاروا أكثر ثقة بالنفس. بعضهم ازداد وقاحة. يتعاملون مع الزبائن بمنطق فوقي. يستخفّون بهم وبحاجاتهم، يذلونهم. والناس بدورهم، طبّعوا مع الواقع المستجد. مُعدّل الاعتراض انخفض بشكل ملحوظ. في الأساس يدخل كثيرون إلى البنوك أذلّاء. يتوسّلون فُتات أموالهم. أي قرش يحصلون عليه زيادة عند الحد الأقصى المعلن، يكون بمثابة الجائزة. لكن في المصرف امرأة تبكي. جلّ ما تريده هو أموال تكفي لدفع ثمن العملية الجراحية التي تريد إجراءها. قدّمت كل المستندات التي تثبت حاجتها إلى العملية، لكنها لم تنفعها، سوى للحصول على 100 دولار إضافية.
حمل تذكرة سفره وقصد فرع المصرف. قال إنه حصل أول الأسبوع على الـ300 دولار المتاحة له، لكنه يريد اليوم المزيد، لاضطراره للسفر. بالكاد التفتت المديرة إلى محدّثها. لديها عمل كثير على ما يبدو. تنظر إلى كمبيوترها أثناء حديثه. يريها التذكرة مكرّراً طلبه. تقول بجلافة: ما بيطلعلك. لكنني لا أملك المال وأنا مسافر بعد ساعتين. لا تكترث، ثم تقول، كما لو أنها اكتفت من هذا المتسوّل: الله يسهلّك. يتوتر محدّثها مهدداً، فتقول له افعل ما تشاء.
في المصارف، لكل حكايته. لكن الإجراءات القاسية لا تنطبق على الجميع. هي بالنهاية إجراءات غير قانونية، ولذلك يمكن الاستنساب فيها. البعض يكون محظوظاً بحصوله على ألفي دولار أسبوعياً. آخرون يوعَدون بثلاثة آلاف دولار. مدراء الفروع هم مفتاح الحل والربط. صلاحياتهم واسعة. لكن ليست كل الإجرءات قانونية. يؤكد أحد المصرفيين أن بعض مدراء الفروع، يتآمرون مع الصيارفة. يبيعونهم قدر الإمكان من الأموال اليومية التي يُفترض أنها مخصصة لتلبية حاجات الناس. يحققون أرباحاً طائلة على حساب المودعين.
هؤلاء المدراء يتحدثون عن 6 أشهر صعبة، هي فترة التضييق على حركة الأموال. ويطلبون من الناس تفهّم الوضع والتعاون. الناس هم في هذه الحالة صغار المودعين. تلك كلمة إن واجهت بها مسؤولاً في مصرف يعترض على «كلام الجرائد». لكن الأنكى أن أصحاب البنوك متفاجئون من مصروف اللبناني. لماذا قد يحتاج موظف إلى 500 دولار في الأسبوع. قبل الانهيار. كانت المصارف، جلّ ما تفعله، هو إقناع الزبائن بضرورة الصرف أكثر، حتى لو كان ذلك عبر قروض. تغيّر الأمر اليوم. من تورّط بقرض مصرفي، ولا يزال يتردد في الانقطاع عن الدفع، صار بإمكانه الدفع بالليرة، لكن بشروط. من يدفع قسط بطاقة الائتمان يحق له أن يدفع الحد الأدنى للبطاقة بالعملة اللبنانية. هذا يعني إلزام حتى من يريد أن يدفع المبلغ المستحق عليه كاملاً، الخضوع لبرنامج تقسيط يكلفه فوائد عالية.
مع ذلك، فإن الحل موجود لدى المصارف. على أبواب الكثير منها يقف صرّاف. والموظف نفسه يتكفّل بإعلام الزبون بوجود الصرّاف، طالباً منه تحويل المبلغ الذي يريد دفعه.
نشتري شيكات
كل ذلك، يقود إلى ابتداع حلول أخرى. أكثر قسوة واستغلالاً. بعيداً عن سوق الصيرفة والمضاربات، بدأت تزدهر سوق الشيكات. هنالك دائماً من يستطيع أن يصرف لك شيكاً نقداً. ذلك ممكن لكن ليس عبر المصرف. كل ما يتوجب على حامل الشيك هو توقيعه، ثم بيعه. الشيكات المصرفية سوقها مزدهر أكثر. لكن في الحالتين ثمن هذه الخدمة باهظ جداً. وقد يصل إلى 35 في المئة من القيمة الإجمالية للشيك. لا أحد يعرف من هو ذلك الشخص الذي يتكفّل بالمهمة. شخصيته سرّية. من يُعرف هو الوسيط الذي يؤمن الزبائن. وهذا يحصل على 2 إلى 10 في المئة من المبلغ. عبثاً يمكن معرفة «المموّل» أو مصدر أمواله. الشيكات كلها توجّه إلى حامله. تبدأ العملية بإصدار الشيك، ثم تصويره وإرسال الصورة إلى الوسيط. الوسيط يرسلها بدوره إلى من يتعامل معه. وهذا قد يكون وسيطاً آخر أو «صاحب الكنز». الوسطاء حمامات سلام، يجب أن يكونوا. الأسئلة الكثيرة كفيلة بإنهاء عملهم. مهمتهم محصورة بأمرين، تأمين الزبائن وعدم طرح أي سؤال، خاصة إذا كان يثير الريبة.
للمناسبة، صورة الشيك هي أهم عنصر في العملية. تلك الصورة تُستخدم للتأكد من وجود الرصيد. يتم ذلك حتى لو كان الشيك مصرفياً (عادة لا يُعطى إلا في حال وجود رصيد). هنا تزيد الشبهات في حق المصارف. يُحكى عن تورط أصحابها أو مسؤولين فيها. وهذا لا يتعلق فقط بالتأكد من صحة الشيكات، بل بالقدرات الهائلة لمشتري الشيكات. لا أحد يمكنه تأكيد ذلك، لكن القيمة الضخمة للشيكات التي يمكن صرفها تزيد الريبة.
المعلن هو أن تجاراً كباراً يملكون الكاش بسبب أعمالهم وقادرون على صرف الشيكات، ومن ثم التعامل بها في تجارتهم. لكن يفترض أن هؤلاء يقبضون بالعملة الوطنية. أي مهما جمعوا من أموال فستكون بالليرة. حتى من يملك الدولارات. هل حقاً يستطيع أن يتخلى عنها مقابل شيكات لا يمكن صرفها؟ مهما كانت قيمة العمولة، فإن الشيك سيوضع في النهاية في المصرف. وهذا يعني أن من يصرف الشيك يفرّط بأموال نقدية مقابل أموال مسجّلة دفترياً، أي محجوزة من المصرف. وحتى إن فعل ذلك إلى حين، فلن يكون بإمكانه الاستمرار، إلا إذا كان مدعوماً من مصرف أو ما شابه.
بالنتيجة، صارت لـ«التجارة» خطوط عريضة بدأت تتحول إلى قواعد. قلة من يهتمون بصرف شيك قيمته أقل من 50 ألف دولار، لكن المذهل هو إمكانية صرف شيكات تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات. كيف يتم تأمين هذه المبالغ؟ أيضاً لا أحد يملك الإجابة.
للمناسبة، العمولة ليست ثابتة. وهي تتغير بحسب الزبون وبحسب ملاءة «الصرّاف». لكن مع ذلك، ثمة أسس معيارية لتحديدها. في النصف الأول من الشهر تتراوح بين 10 و15 في المئة. وفي النصف الثاني ترتفع إلى ما بين 20 و35 في المئة. مع الوقت، بدأت تثبت العمولة على معدّل 20 في المئة، تزيد أو تقل على الزبون، بحسب مسايرته من قبل الوسيط، الذي يمكن أن يوافق على تخفيض عمولته، لكن من يدفع المال لا يُفاوض على حصته.
ما إن يتم الاتفاق على نسبة العمولة وقيمة المبلغ، ثم يتم التأكد من ملاءة صاحب الشيك، حتى لا يبقى سوى تنفيذ عملية التبادل. وذلك قد يتم في أي مكان عام أو خاص. يتأكد الشاري من تطابق رقم الشيك مع ذلك الذي أُرسلت صورته سابقاً، ويتأكد بائعه من أن الأموال النقدية سليمة.