تُشكّل نسبة المبيعات في شهر كانون الأول حوالى 40 في المئة من سوق البيع بالتجزئة. الأسواق التجارية في مختلف المناطق تنتظر الأيام العشرين الأولى من هذا الشهر لتكوين “خميرة” لفصل الشتاء. المحلّات تتزيّن بأبهى حللها، تعرض المجموعات الجديدة من الألبسة والأحذية والأكسسوارات المختلفة، وتزيل شعارات “الأوكازيون” ونسب التخفيضات عن واجهاتها… هذا كان قديماً، أما اليوم فالعكس هو الصحيح.
أكثر من 6 محلاّت تجارية مقفلة ومعروضة للإيجار في سوق فرن الشباك التجاري، “وإذا أكملت طريقك صعوداً نحو أول الشارع ستكتشف العجائب”، تقول سيدة واقفة أمام محلّها، تنفخ دخان سيجارتها صعوداً لتتابع “الوضع لم يعد يُطاق، لم يدخل زبون إلى محلّنا منذ أيام. والشهر “وراء الباب” – تقصد ان الإيجار يستحق قريباً – الفواتير تتراكم والديون تتزايد والمبيع يساوي صفر”.
إقفال المحالّ
يراودنا شعور بأن كلام السيدة قد يكون مبالغاً فيه، فهي تتكلم بغضب وحرقة كبيرين… نتركها في همها وندخل متجراً كبيراً ومعروفاً للأحذية المستوردة، الموظفات يحاولن إبراز “الموديلات” المميزة ويعملن على عرضها على كراتين في وسط المحل، فيما يجلس الشاب الثلاثيني نيكولا شلهوب وراء مكتب متواضع وإلى جانبه رجل يبدو انه والده. وبعد التعريف عن أنفسنا، نسأله عن الحركة التجارية ونسبة البيع المحققة، فيجيب: “هذه السنة غريبة عجيبة، ولا نستطيع ان نطبق عليها الحسابات التجارية التقليدية، لكن بشكل عام فان الحركة متراجعة بأكثر من 80 في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي، والتي كانت بدورها متراجعة عن التي سبقتها. وبرأي شلهوب ان مصيبتهم “تشبه مصيبة كل التجار في كل الأسواق” فهم “عاجزون عن شراء بضائع جديدة”، وفقدوا نتيجة الإجراءات المصرفية الأخيرة “القدرة على فتح إعتمادات شراء جديدة أو أخذ تسهيلات تجارية”، وهمهم الأساسي تحوّل نحو “البحث عن طريقة لبيع مخزون البضائع وتصفية الأعمال والإقفال”.
الأب الذي كان يهز برأسه يميناً وشمالاً بحركة عصبية، يستلم دفة الكلام فور نطق ابنه بكلمة إقفال ليقول “لم أشهد طيلة خمسين عاماً على مثل هذه الأيام، بسبب “هالمسؤولين الزعران”. 70 عاماً من عمري ذهب مجاناً بسببهم، ولا نعرف ماذا يريدون أو إلى أين يأخذون البلد، وها هم اليوم يؤجّلون الإستشارات النيابية ويعجزون عن تشكيل حكومة”.
يتشارك كل التجار الذين التقيناهم الوجع نفسه والذي يمكن تلخيصه بالتالي:
– تراجع مخيف في نسبة المبيع تجاوز 80 في المئة في الكثير من الأشهر، بالمقارنة مع العام الماضي.
– إنعدام القدرة على استيراد البضائع من الخارج، بسبب وقف الإعتمادات المصرفية ومنع التحويلات المالية.
– صعوبة تأمين بدلات الإيجار المقومة بالدولار، والتي زادت بنسبة 35 في المئة بسبب ارتفاع سعر الصرف.
– صرف العمال والموظفين، وإعطاء نصف راتب أو أقل لمن بقي.
– ميل عام لتصفية الأعمال والإقفال مطلع العام المقبل في حال استمرار الوضع كما هو عليه.
هجرة الشركات
“معظم الشركات في القطاع الخاص لا تعمل اليوم بأكثر من 25 إلى 30 في المئة من طاقتها التشغيلية، وبالتالي فإن حجم المبيعات انخفض بنسبة 70 في المئة”، تقول رئيسة المجلس اللبناني للنساء القياديات مديحة رسلان.
تداعيات ما يجري اليوم لا تقتصر على تراجع المبيعات وإقفال المحلات والمتاجر، إنما باتخاذ الكثير من المؤسسات المحلية أو الأجنبية الرائدة في مجال “الفرانشايز” قراراً بنقل أعمالها إلى خارج لبنان، وهو ما يشكل خسارة كبيرة على مستوى جودة البضائع والمنتجات والمردود الذي كانت توفره للإقتصاد وخسارة عشرات فرص العمل التي كانت توفرها للجيل الشاب والخريجين الجدد.
وبرأي رسلان ان الأزمة التي ستدفع إلى إقفالات بالجملة في غضون أشهر قليلة تتطلب من المسؤولين في الدولة والقطاع المصرفي اتخاذ خطوات جادة أبرزها:
– تخفيض الفوائد على قروض الشركات من 11 في المئة إلى حدود 2 أو 3 في المئة، وذلك لتخفيف العبء عن الشركات وضمان استمرار تسديدها للأقساط.
– إعطاء الدولة فترة سماح للشركات من دفع مصاريف الضمان والضرائب لمدة عام بأقل تعديل. وهذا الإجراء ممكن ان تتخذه حكومة تصريف الاعمال سريعاً.
الآتي أسوأ
بالأرقام، فقد بلغ “عدد الشركات المقفلة نهائياً خلال الفصلين الثاني والثالث من هذا العام حوالى 3 آلاف شركة، توظف ما لا يقل عن 30 ألف عامل. ومن المتوقع أن يصل العدد الكلّي مع بداية العام القادم إلى 30 ألف شركة من أصل 150 ألف شركة مسجّلة في لبنان، أي ما نسبته 20 في المئة”، يقول عضو مجلس إدارة جمعية تجار بيروت باسم البواب.
ويؤكد البواب أن “شركات كثيرة تنتظر انتهاء شهر كانون الثاني لتتخذ قرارها النهائي إما بالإقفال وإما بالاستمرار. إذ انه مع بداية العام يتم تجديد العقود مع الموظفين والمؤجرين والموردين، ويظهر الخيط الأبيض من الأسود على الصعيد السياسي والذي على أساسه تحدد الشركات مصيرها”.
غياب المعالجة السياسية، واستمرار النزف في القطاع الخاص من المتوقع أن يرفع عدد العاطلين من العمل في الفصل الأول من العام 2020 إلى حدود 600 ألف فرد، الأمر الذي ستتخطّى تداعياته ارتفاع معدلات البطالة، لتسبّب أزمات إجتماعية وأمنية مفتوحة على كل الصعد.