أُقرّت موازنة 2020 بتقديرات وهمية عن النفقات والإيرادات والعجز. حتى أعضاء لجنة المال والموازنة الذين يمثّلون القوى السياسية نفسها التي أعدّت الموازنة في الحكومة، لم يتمكنوا من تصديق هذه الكذبة الكبيرة، وأوضحوا أنه رغم التعديلات التي تشير إلى خفض تقدير النفقات بنحو 6490 مليار ليرة، إلا أن العجز بعد التعديلات هو 12057 مليار ليرة وهو رقم «لا يمكن الركون إلى نهائيته وواقعيته»
نوقشت موازنة 2020 وأقرّت في 3 ساعات. ربما لم يكن يفترض أن تأخذ وقتاً أطول إذ لا تتضمن إلا أكاذيب وأوهاماً. تقدير للنفقات لم تلتزم به قوى السلطة يوماً. وتقدير للنفقات خارج حدود أي منطق اقتصادي. أصلاً، إقرارها لم يكن هزيلاً فحسب بوجود رئيس للحكومة «كبّل يديه» عن المشاركة في حوار «الطرشان»، بل كان أيضاً إقراراً هزليّاً برعاية النائب سليم سعادة. بعض النواب انغمسوا في تشخيص الأزمة وأنكروا حقيقة مشاركتهم في السنوات الماضية كممثلين عن الشعب في حوارات مماثلة، أو مشاركة ممثليهم في الحكومة بتقديم وصفة التقشّف نفسها. لم يكتفوا بذلك، بل قدّموا للحكومة الغائبة بسبب عدم نيلها الثقة بعد، واحدة من وصفاتهم السحرية التي لا تهدف إلا لتبرير لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي. هو الحلّ الاسهل لهذه الطبقة. أن تستقدم من يدير التفليسة بدلاً منها. أن تتنازل فقط أمام جهات دولية. أَمَلُ هذه القوى، أن تعيد هذه الجهات اليها السيطرة بعد «تنظيف» المدّخرات و«تكنيس» القطاع العام وأملاك الدولة على حساب تدمير المجتمع. في ذلك الوقت قد تصبح هذه السلطة أو أذنابها هي «الحلّ» للخروج من تحت سيطرة صندوق النقد الدولي. هذا ما روّجت له غالبية النواب عن «قصد» أو عن «جهل»؛ معالجة غير موثوقة سواء بأهدافها أو بمَنْ يقترحها.
الهيئة العامة لمجلس النواب لم تجر تعديلات جوهرية على مشروع موازنة 2020 خلافاً لما حصل في لجنة المال والموازنة. أرقام الموازنة، كما جاءت من الحكومة، تتضمن نفقات بقيمة 18882 مليار ليرة وإيرادات بقيمة 19816 مليار ليرة وسلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار ليرة (شراء الفيول أويل لتشغيل معامل إنتاج الكهرباء)، ليصبح العجز 0.63% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن بعد تعديلات اللجنة، جرى خفض الإيرادات إلى 13395 مليار ليرة، والنفقات إلى 18232 مليار ليرة مع سلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار ليرة، ليبلغ العجز 4837 مليار ليرة، أو ما يوازي 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي (على افتراض أن الناتج لن ينكمش وسيستقرّ على 58 مليار دولار).
العجز الحاصل بعد الخفوضات هو أيضاً وهمي. فقد ورد في تقرير لجنة المال والموازنة، أنها استوضحت وزير المال (السابق علي حسن خليل) عن واقعية هذه الإيرادات المقدرة، فأجرت الوزارة إعادة تقدير لها وخلصت إلى أنها ستتراجع بقيمة 6490 مليار ليرة لتبلغ الإيرادات المقدرة 13325 مليار ليرة. كذلك يشير تقرير اللجنة إلى أن هذه التقديرات، بنسختيها الأولى والمعدّلة، تأخذ في الاعتبار مبلغ 5000 مليار ليرة «تفاهمت الحكومة مع مصرف لبنان وجمعية المصارف على توفيرها للخزينة»، ما يعني أن «قيمة عجز الموازنة يبلغ 12057 مليارات ليرة في حال عدم الالتزام بهذا التفاهم، وبأن مشروع موازنة 2020 فقد أبرز مقوّماته وهي التوازن، لأن وارداته الذاتية لا تكفي لتغطية أربعة أنواع حتمية من الإنفاق يبلغ مجموعها 14454 مليار ليرة وهي: خدمة الدين العام، الرواتب والأجور، المنافع الاجتماعية، المساهمات للمؤسسات العامة».
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التزم امام اللجنة بالتزامه، فيما «عبّرت جمعية الصمارف عن عدم قدرتها على الالتزام بسبب الظروف المستجدة». إلا أن اللجنة وجدت نفسها مضطرة أن تأخذ في الاعتبار ثلاثة عوامل أساسية:
ــ عدم إمكانية التثبّت من المنطلقات والافتراضات التي بني عليها خفض الإيرادات من قبل وزارة المال.
ــ تدنّي تحصيل الإيرادات بالنسبة لتقديرات الموازنات السابقة: المحصّل لغاية تشرين الأول 2019 تدني بنسبة 14.2% عما كان مفترضاً تحصيله وفق موازنة 2019، والتحصيل بالنسبة للسنوات السابقة، باستثناء 2017، كان أقلّ من التقديرات المقرّرة بموجب الموازنة بنحو 11% سنوياً.
ــ الظروف المستجدّة منذ 17 تشرين الاول 2019، بما فيها السعي إلى تأليف حكومة جديدة وعدم معرفة سياساتها العامة في جميع المجالات، ولا سيما الإصلاحية منها، وكذلك خطّتها للخروج من حالة التعثّر والاختناق التي ترزح تحتها جميع القطاعات…
هذه العوامل تدفع لجنة المال والموازنة «إلى عدم الركون إلى نهائية وواقعية الواردات، حتى تلك المعاد تقديرها».
الإيرادات المحصلة من وزارة المال كانت دائماً أدنى بـ11% من تقديرات الموازنة وفي 2019 كانت أدنى بـ14.2%
هذه العبارة الورادة في التقرير تغني عن كل النقاشات في الهيئة العامة لمجلس النواب حيث يختلط الجهل الاقتصادي والقانوني بالسياسة والمناطقية وأمراض كثيرة أخرى يعانيها ممثلو الشعب. فهذا المشروع كان مبنياً على فرضيتين خاطئتين بالكامل: أن هناك نموّاً اقتصادياً يؤدي إلى زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.9% أو 2% ما ينتج عنه دفع إضافي لزيادة الإيرادات الضريبية، وأن مصرف لبنان والمصارف ملتزمة بالمساهمة في عملية استبدال الديون (سندات الخزينة بالليرة) بديون جديدة فائدتها 1% بقيمة إجمالية تبلغ 12 ألف مليار ليرة. ما لم تحسبه اللجنة أو تذكره في متن تقريرها، هو أن الإيرادات المتوقعة ستنخفض من ثلاثة مصادر أساسية: الرسوم الجمركية، الضريبة على القيمة المضافة، الضريبة على الفوائد المصرفية. فالأزمة الراهنة لم تعد أزمة مالية متعلقة بالدين العام وبقدرة الدولة على الإيفاء به، بل هي أزمة مصرفية وأزمة اقتصادية وأزمة اجتماعية: إنها أزمة نظام ينهار بكامله.
اللجوء إلى صندوق النقد الدولي هدفه واحد: الاقتراض من أجل إنقاذ المصارف
بعض التقديرات تشير إلى أن اقتصاد لبنان سينكمش بنسبة 15% ما يعني أن العجز بقيمة 12057 مليار ليرة يوازي 15.5% من الناتج في 2020. وهو لن يكون صفراً كما ورد في أول مشروع، ولن يكون 13.5% كما جاء بعد تعديلات لجنة المال والموازنة.
لكن فوق ذلك كلّه، تجدر الإشارة إلى أن الأزمة المالية الحالية لا علاقة لها بكمية الديون بالليرة اللبنانية، بل بكمية الديون بالدولار، خصوصاً أن المصارف أودعت لدى مصرف لبنان أكثر من 70 مليار دولار وهو ليس لديه إلا 30 مليار دولار، على حدّ زعمه، ما يعني أن الفرق بينهما هي أموال تبخّرت، وأن كل قرش يصرف من احتياطات مصرف لبنان هو قرش يصرف من أموال المودعين. وللمناسبة هذا النقاش أيضاً يستخدم من أجل تبرير لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي للاقتراض منه وطلب مساعدته للاقتراض من الدول المانحة أيضاً. هل تعرفون ما هو الهدف الأساسي لهذه الاستدانة: إعادة تكوين رساميل المصارف. هذا هو أكبر خطر يمرّ به المجتمع، أن يأتي صندوق النقد الدولي ليفرض علينا الضرائب الاستهلاكية، ويقونن الأكل والشرب واستهلاك الوقود والإنفاق والتوظيف… ثم يقرضنا أموالاً أو يساعدنا على اقتراضها من أجل المصارف.