كان من الممكن أن تترك مهمة إعلان “الإنتكاسة المالية” الأقسى، للحكومة مجتمعة، فتخرج وزيرة الاعلام منال عبد الصمد، كعادتها، للوقوف على منبر مجلس الوزراء، لتتلو البيان على “فظاعته”، فتتوزع المسؤولية المعنوية بالتساوي على المكونات الحكومية، ومن خلفها “دعائمها السياسية”.
لكن رئيس الحكومة حسان دياب اختار الوقوف في الواجهة. لم يكترث كثيراً للكم من الانتقادات التي سيتعرّض لها على المستوى الشخصي، لأنّه سيحصل حكماً حتى لو أضاء أصابعه العشرة، فكيف بالحري في هذه الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد وقد وضعتها السياسات المالية على فوهة بركان اجتماعي قد ينفجر في أي لحظة!
رغم كثافة التسريبات التي استبقت قرار يوم السبت، إلا أنّ أيًا منها لم ينجح في القاء القبض على المصطلح القانوني الذي سيتمّ استخدامه للتعبير عن موقف لبنان من سندات اليوروبوندز التي تستحق اليوم الاثنين، في أولى محطاتها في العام 2020.
معظم التكهّنات جنحت نحو السيناريوات الأكثر سوداوية، وتحديداً نحو خيار امتناع لبنان عن السداد تحت وطأة تراجع احتياطي مصرف لبنان وقد وصفه دياب بالمستوى “الحرج والخطير”، وما يمكن لهذا القرار أن يحمل من تداعيات قضائية قد يفرضها الدائنون على لبنان. وقد ترافقت مع حملة تهويل وضغوط غير مسبوقة شاركت فيها قوى سياسية، لاعتبارات غير مفهومة، كما يقول مطلعون على موقف رئيس الحكومة.
هكذا، تلا رئيس الحكومة البيان وانصرف فريق عمله إلى رصد ردود الفعل إزاء القرار “المرن” الذي تأرجح بين حدّي الامتناع عن الدفع في الوقت الراهن، وبين فتح باب التفاوض مع الدائنين. لم يقلها دياب بشكل واضح، لكنّ التعبير القانوني الذي جرى الركون إليه، وجّه إشارات قد تعفي لبنان من أثمان الملاحقة القضائية أمام المحاكم الدولية بتهمة التخلف عن سداد دينه. وقد سجّل مرصد المواقف الدولية، كلاماً لافتاً للمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش الذي اعتبر أنّ خطاب دياب “يفتح الطريق للخروج من الأزمة”، وشجع “الدائنين على العمل مع الحكومة لتفادي التخلف عن السداد غير المنظم”. وفق المطلعين على موقف دياب، لم تكن ردود الفعل سلبية، لا بل اتسمت بمستوى عال من المسؤولية من جانب الكثير من القوى السياسية والنخب اللبنانية، بدليل أنّ الشارع الذي كان يغلي منذ أسابيع، لا يزال مقتنعاً بضرورة منح الحكومة فرصتها بالكامل، ولو أنّه يطرح أسئلة مشروعة حول طبيعة الخطوات المقبلة… حيث يفترض بالرؤية الاقتصادية أن تجيب على كل الهواجس المرتبطة بهذه التساؤلات.
بين الدولة والدائنين
وبالانتظار، لا يزال “التباس” العلاقة بين الدولة اللبنانية والدائنين لا سيما الأجانب منهم موضع استفسار خصوصاً وأنّ هؤلاء كانوا حتى الأمس القريب، أي قبل يومين، يرفضون مبدأ التفاوض مع الدولة اللبنانية ويفضّلون التسلح بقاعدة التهديد باللجوء إلى المحاكم المختصة.
عملياً، وفي حالات مشابهة، عادة ما يترك الاعتراف بوجود مفتاح للتفاوض، إلى اللحظات الأخيرة من المهل القانونية. فيتمسك الدائن بموقفه الرافض للجلوس الى طاولة الحوار، فيما يثبت المدين عند موقفه الرافض للدفع، إلى حين الالتقاء عند خطّ وسطي. وهذا ما يفترض أنّه يحصل في الحالة اللبنانية.
تشير المعلومات إلى أنّ لبنان الرسمي تعامل مع استحقاق آذار على أنّه متعثّر بمعزل عمّا سيقدم عليه الدائنون من إجراءات قانونية، إلى أن فتحت قنوات تواصل خلفية حرصت على إيداع رسائل ايجابية من شأنها تسهيل الطريق أمام جلوس الطرفين الى طاولة مشتركة. وهذا ما دفع الحكومة اللبنانية في الساعات الأخيرة إلى إبداء بعض المرونة في التعاطي مع هذا الملف بعدما كانت تتسلّح بالتشدّد، تمهيداً لفتح باب حوار رسمي يفترض أن يقوده الاستشاريان القانوني والمالي اللذان أوكلتهما الحكومة مهمة التفاوض مع الدائنين.
ولهذا لم يكن اختيار مصطلح “التعليق” وليس الامتناع، عبثياً، كون لكل منهما تداعياته وتفسيراته القانونية، وإنما جاء بمثابة تعبير عن حسن نية لبنان، وانفتاحه على مبدأ التفاوض. وبهذا المعنى حمل تأكيد دياب في كلمته الموجّهة إلى اللبنانيين اشارة ايجابية للدائنين، حيث شدد على “أن الدولة اللبنانية ستسعى، إلى إعادة هيكلة ديونها، بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، عبر خوض مفاوضات منصفة، وحسنة النية، مع الدائنين كافة، تلتزم المعايير العالمية المثلى”.
هكذا، بات الاعتقاد سائداً أنّ الدائنين، لا سيما الأجانب منهم لن يسلكوا طريق مقاضاة لبنان، أقله قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي باتت مشرّعة على الكثير من الاقتراحات التي يُعمل عليها ليكون أحدها مرضياً للطرفين. على هذا الأساس، ستتحول الأنظار إلى الخطة الاقتصادية التي تعمل عليها أربع لجان متخصصة تمّت تسميتها من جانب رئاسة الحكومة لكي تعالج الأزمة الثلاثية الأضلاع كما وصفها دياب في كلمته: أزمة العملة، وأزمة المصارف، وأزمة الديون السيادية.
ويشير المطلعون على موقف دياب إلى أنّ الخطة الاقتصادية تخضع للمسات الأخيرة وقد ألمح رئيس الحكومة إلى بعض عناوينها في كلمته سواء من خلال الإشارة إلى امكانية دمج المصارف، أو حماية المودعين الصغار أو حتى مشروع التغويز الذي سيخفف من عبء الخزينة في ما خصّ قطاع الكهرباء. ويلفتون إلى أنّ اجراءات الخطة ستقرّ تباعاً وقد تشهد جلسة مجلس الوزراء لهذا الأسبوع بعضاً من هذه الاجراءات.