بهدف رفع معنويات المواطنين أو بمحاولة تخديرهم لفترة من الزمن، تُصوّر القرارات التي تتصل بمعالجة همومهم الحياتية أضخم من حجمها الحقيقي. وهذا ما ينطبق على التعميم الاخير رقم 556، الذي يقضي بتأمين نسبة 90 في المئة من قيمة المواد الاولية المستوردة لحاجات الصناعة.
العنوان كبير ورنّان، فيما المضمون فارغ. وإذا سلمنا جدلاً بقدرته على تأمين الدولار على سعر 3200 للصناعيين من أجل استيراد المواد الاولية، فلن يستفيد منه اكثر من 333 معملاً، لغاية مبلغ حده الاقصى 300 ألف دولار سنوياً. وسُيحرم في المقابل أكثر من 5 آلاف معمل من الدعم.
التعميم 556
يثير التعميم الوسيط رقم 556 تساؤلات في أوساط الصناعيين اكثر مما يقدم من أجوبة. البعض من الصناعيين امتنع عن التعليق عليه بحجة انه “ما بيحرز”، فيما البعض الآخر فضّل انتظار قرار وزارة الصناعة، الذي أناط التعميم بها اصدار آلياته التنفيذية. وفي جميع الاحوال فان التعميم خص بالدعم المعامل التي تصنّع المواد الغذائية والمواد الاولية للمواد الغذائية، والصناعات التصديرية التي تعود بالعملة الصعبة فقط، واستثنى بقية الصناعات. وهو الامر الذي ينم عن جهل فاضح في طبيعة العمل الصناعي. “إذ انه من دون الصناعات التغليفية من ورق وكرتون وبلاستيك ونايلون وزجاج… لا توجد صناعة ولا امكانية على التصدير”، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش. ويضيف ان “هذا ما يدفعنا للاعتقاد بأن اصدار التعميم اتى نتيجة إحراج حاكم مصرف لبنان، وليس لتلبية حاجات الصناعة الوطنية كما جرى تصويره”.
الدعم هزيل
يحتاج القطاع الصناعي سنوياً أقلّه إلى 3 مليارات دولار من أجل تأمين المواد الاولية. وذلك بالقياس إلى قيمة الانتاج الصناعي التي وصلت في العام 2019 إلى حدود 13 مليار دولار. وعليه فان رقم الـ 100 مليون دولار يعتبر اكثر من هزيل. فهو لا يشكل أكثر من 3 في المئة من الحاجة الفعلية للمواد الاولية. أما في حال السير به، فسيحظى بعض النافذين أو اصحاب العلاقة القوية مع وزارة الصناعة أو بعض المصارف بالدعم الكامل فيما ستحرم البقية. “هذا اذا التزمت المصارف بتطبيقه ولم تجرِ عرقلته والتهرب منه على غرار القرارات والتعاميم السابقة”، يقول بكداش.
تمييع القرارات
شكل دعم الصناعة عنواناً بارزاً منذ انفجار الازمة الاقتصادية في نهاية العام الماضي. ورغم جهود الصناعيين واقتراحاتهم وجولاتهم المكوكية على المسؤولين السياسيين والمصرفيين، فان كل الوعود بقيت حبراً على ورق. فلم يستفد الصناعيون من مبلغ الـ 100 مليون دولار الذي وعدوا به مراراً وتكراراً منذ مطلع هذا العام. وعُرقل مشروع دعم الصناعات ذات الطاقة المكثفة، بقيمة 300 مليون دولار في مجلس النواب. والمنصة التي تعمل على توفير تسهيلات قصيرة الأجل للمستوردين والمصدرين الصناعيين بقيمة 750 مليون دولار، لم تُبصر النور في مطلع نيسان، كما وعد حاكم مصرف لبنان. ولم يجرِ إنشاء برنامج إقراض مستدام وقابل للتطوير لمساعدة الصناعيين الصغار والمتوسطي الحجم على تمويل استيراد المواد الأولية بما يقارب 3 مليارات دولار سنوياً. واستمرت المصارف في الاستنسابية، ورفض تطبيق القرار الوسيط رقم 13213 الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 23/3/2020. وهو القرار الذي يطلب فيه المركزي من المصارف ان تمنح، على مسؤوليتها، قروضاً استثنائية بالليرة اللبنانية او بالدولار الاميركي لعملائها الذين لا يستطيعون تسديد مستحقاتهم لثلاثة اشهر (آذار ونيسان وأيار 2020) بسبب الاوضاع. وصولاً اليوم الى القرار رقم 556 المشكوك بتطبيقه من قبل المعنيين. لماذا الصناعة؟
يتقدم دعم القطاع الصناعي على غيره من القطاعات الانتاجية والخدماتية لسببين رئيسيين: الاول، هو حجم العمالة الضخمة في القطاع، والثاني، مساهمته الكبيرة في تصحيح الخلل في ميزان المدفوعات. ففي ظل ارتفاع نسبة البطالة إلى اكثر من 32 في المئة، تحتضن المصانع اللبنانية 195 ألف عامل. وبالتالي فان دعمها سيجنّب سوق البطالة دخول عشرات الآلاف من المصروفين من المعامل. وبالاضافة إلى ان دعم الصناعة يساهم بتعزيز قدراتها التصديرية وادخال العملة الصعبة إلى البلد، فانه يؤمن من الجهة الاخرى سلعاً بديلة عن المستوردة، ويحد من خروج العملة الصعبة، وتدهور ميزان المدفوعات الذي يعتبر “أم” المشاكل.
الإصلاحات أولاً
تحويل الدعم من الورق إلى التطبيق يتطلب أكثر من اتخاذ القرارات حسنةِ النية. فتأمين المواد الاولية للصناعة او حتى توفير الدولار المدعوم لاستيراد المواد الغذائية يتطلبان أولاً وجود الدولار، الذي لم يعد متوفراً لا في المصارف، ولا في “المركزي”. كما ان المصارف لم تعد مستعدة للمخاطرة بما لديها من عملة صعبة في ظل انسداد الافق، وتعطل كل الاصلاحات التي من شأنها إعادة الثقة بالبلد. وهو ما جعلها، بحسب بكداش، “تعلق تنفيذ كل القرارات وآخرها اعطاء قروض بالعملة الصعبة بدعم من المركزي”. فعدم المباشرة بأبسط الاصلاحات المتمثلة بالتعيينات المالية في لجنة الرقابة على المصارف وحاكمية مصرف لبنان، يعتبر اشارة غير مشجعة على قدرة السلطة على الدخول في الاصلاحات الكبيرة، مثل الكهرباء والقطاع العام وترشيد الانفاق ومحاربة الهدر والفساد. ومن دون هذه الاصلاحات لن يأتي دولار واحد إلى البلد بديلاً عن الذي ننفقه. فلا الجهات الدولية ستمد لبنان بالقروض المدعومة، ولا المغتربون سيحولون الاموال التي كانت تصل إلى 8 مليارات دولار، ولا المستثمرون سيضخون الاموال، ولا السياح سيعودون الى ربوع لبنان.
من هنا فان الاصلاحات هي القاطرة التي تجرّ وراءها الانتعاش في القطاعات الانتاجية كافة وليس العكس. وطالما ما زالت المقطورات تتقدم عليها، فان قطار الاقتصاد لن يتعرقل فحسب، بل سيتهدم في وقت قياسي.