أُحبط اقتراح وزير الاقتصاد في مهده. تأثيره الاجتماعي أكبر من قدرة الحكومة على استيعابه. وهذا التأثير لن يقتصر على الارتفاع الهائل في أسعار المحروقات والخبز، بل يمكن أن يؤدي إلى انهيار شامل، إذا لم يقترن بتأمين تدفقات مالية تسمح بوضع سياسات لضبط الأسعار.
لم يصمد طويلاً اقتراح وزير الاقتصاد راوول نعمة زيادة سعر صرف الدولار على المحروقات والقمح، من 1515 ليرة إلى سعر السوق. لا أحد من القوى السياسية يمكنه أن يحتمل الخضة الاجتماعية التي يمكن أن تنتج عن قرار كهذا. حتى تسويق نعمة للاقتراح من باب «لماذا ندعم الأغنياء؟»، لم يؤدّ غايته. تحويل خمسين في المئة من المستهلكين إلى مستجدين للقسائم التي تغطّي الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق، يبدو أشبه بمزحة سمجة. هذا من دون أن يوضح أحد ماذا سيكون مصير هؤلاء إن تحرّر سعر الصرف الرسمي. هل يبقى الدعم عندها؟
لطالما كان المس بسعر الخبز من الكبائر. ارتفاع سعر الربطة من 1500 ليرة إلى 3000 ليرة، في حال طبّق الاقتراح، يمكن أن يجر إلى أزمة خطيرة يصعب أن تصمد في وجهها أي حكومة.
زيادة سعر الصرف، بحسب نقيب مستوردي القمح أحمد حطيط، سيؤدي إلى رفع سعر طن الطحين من 600 ألف ليرة حالياً إلى مليوني ليرة. لكن النتيجة لن تكون مقتصرة على ارتفاع سعر الربطة فحسب. الأمر قد يصل إلى فقدان الخبز من الأسواق بسبب وجود أزمة دولار حادة. يقول حطيط إن أصحاب المطاحن غير قادرين على تأمين الـ15 في المئة المطلوبة نقداً حالياً، فكيف سيؤمّنون الـ100 في المئة؟ ويكشف أن إحدى المطاحن في الشمال لم تتمكن أمس من تفريغ شحنة القمح لأنها لم تستطع تأمين الدولارات النقدية المطلوبة.
حالياً، يوجد 12 مطحنة في لبنان، خمس منها فقط تستورد القمح. الاستيراد الشهري لها يصل إلى خمس بواخر شهرياً، أي ما يعادل 10 ملايين دولار، سيكون مطلوباً تأمينها من السوق، فهل هذا ممكن من دون تدخل مصرف لبنان؟
بالرغم من انتشار اقتراح وزارة الاقتصاد، فإن حطيط لا يزال يتوقع أن يُستثنى القمح من أي قرار كهذا، خاصة أن حجمه ليس كبيراً بالمقارنة مع المحروقات. فكل استيراد القمح لا يحتاج إلأى أكثر من 150 مليون دولار سنوياً، بالمقارنة مع نحو ملياري دولار مخصّصة لاستيراد المحروقات. باختصار، يؤكد حطيط أن أي قرار من هذا النوع سيؤدي إلى توقف الشركات عن استيراد القمح، ما يعني عملياً الدخول في أزمة خبز لا تنتهي إلا بتولّي الدولة مهمة الاستيراد بنفسها.
المستوردون والتجّار قد لا يتأثرون بتغيير سعر الصرف. فهم يحدّدون الأسعار تبعاً لتكاليفهم وأرباحهم، لكن التأثير يبقى على الناس والمستهلكين. لكن كما هي حال مستوردي القمح كذلك هي حال مستوردي النفط. هؤلاء يشكون من أنهم «يعانون» لتأمين الدولارات النقدية وتغطية الـ15 في المئة المطلوبة من مصرف لبنان لفتح الاعتمادات. الاستهلاك المحلي للمازوت والبنزين يقدّر بـ10 ملايين دولار في اليوم. يقول نقيب مستوردي النفط جورج فياض إنه يستحيل الحصول على هذا المبلغ يومياً من السوق. لذلك، «إذا لم يؤمن مصرف لبنان الدولارات فلن نستطيع الاستيراد».
وفق السيناريو «الأفضل»، فإن المصرف المركزي سيلتزم بتأمين الدولارات الضرورية للاستمرار في استيراد القمح والمحروقات، وإن وفق سعر السوق. لكن بأي ثمن على الناس يمكن أن يحصل ذلك؟ بحسب جدول تركيب الأسعار، فإن سعر صفيحة البنزين عند وصولها إلى المرفأ يبلغ حالياً 9960 ليرة (على سعر صرف 1515). ووفق دراسة لــ«الدولية للمعلومات»، فإن هذا السعر سيرتفع، في حال تثبيت سعر الصرف على 4000 ليرة، إلى 26297 ليرة، قبل احتساب الرسوم والضريبة على القيمة المضافة، علماً بأن هذه الرسوم والضرائب تصل قيمتها حالياً إلى 11 ألف ليرة، وهي ليست ثابتة في ظل تثبيت سعر الصفيحة للمستهلك. كذلك، فإن سعر صفيحة المازوت يمكن أن يرتفع من 10450 ليرة (واصلة إلى المرفأ) إلى 27800 ليرة.
مستوردو القمح والنفط: لا يمكننا أن نستورد إذا لم يؤمّن لنا مصرف لبنان الدولارات
لا توقعات أن يؤدي ارتفاع السعر إلى انخفاض الاستهلاك بشكل ملحوظ. وبالتالي، من يفترض أن مهمة اقتراح وزارة الاقتصاد هي خفض فاتورة الاستيراد، وبالتالي خفض استنزاف الدولارات، لن يصيب تماماً. تأثير هذا الارتفاع أشمل من أن يكون محصوراً بشراء تلك المادة. كما أن معالجته أعمق من أن تكون على شكل قسائم للفقراء. فهو سيطال كل أوجه العيش، بما يؤدي إلى المزيد من تآكل القدرة الشرائية للناس.
يجزم مصدر مطّلع بأن اقتراح وزير الاقتصاد لن يمّر، ليس بسبب تأثيره الاجتماعي فحسب، بل لأن أي خطوة كهذه لا بد أن تكون جزءاً من البرنامج مع صندوق النقد (في حال التوصل إلى اتفاق)، إذ إن أحداً لا يقدم على تغيير سعر الصرف (في حال تطبيق الاقتراح لا يبقى سوى الدواء على سعر 1515 ليرة) إذا لم يكن واثقاً من دخول تدفّقات مالية إلى لبنان، تسمح بتنفيذ سياسات لضبط الوضع والتدخل في السوق عندما تستدعي الحاجة. أي أمر آخر قد يؤدي إلى انهيار شامل، لا يقتصر على إمكان وصول سعر ربطة الخبز إلى 10 آلاف ليرة ربما، في حال استمر انهيار سعر الليرة. وهنا لا يكفي أن يسعى مصرف لبنان إلى استقطاب ما أمكن من الاحتياطيات الموجودة داخل المنازل والتي تقدر بما بين 4 و5 مليارات دولار، ولن تخرج إذا لم يتمكن المصرف من التوصل إلى سعر صرف قريب من سعر السوق السوداء.
لماذا الاقتراح إذاً؟ برأي المصدر، فإن الغاية الأساسية له هي الإعداد لتغيير سعر الصرف.