هناك من يطرح ضرورة رهن الذهب أو بيعه للاستمرار في تأمين الاعتمادات اللازمة لدعم البنزين والدواء والطحين (مروان طحطح)أموال المودعين تبخرّت، تلك حقيقة ثابتة، ولو أن «حزب المصارف» ما زال يسوّق العكس. الخطوة التالية اليوم التي بدأ بعض المصرفيين الترويج لها هي ضرورة «تسييل الذهب» لإطعام الفقراء، وحتى لا يتمكن الدائنون من الحجز عليه في الخارج. لكن، الأساس في هذا الطرح، يتمثل في استعمال موجودات الدولة التي هي ملك للشعب، لسدّ خسائر المصارف وإعفائها من المحاسبة
«احتياطي الذهب خط أحمر»، تغريدة نشرها المستشار المالي المستقيل هنري شاوول منذ يومين، موحياً كأنه تمّ طرح الموضوع على طاولة تغطية الخسائر من أموال الشعب مجدداً. وتلك نظرية أشار اليها رئيس مجلس بنك الموارد الوزير السابق مروان خير الدين أخيراً في إحدى مقابلاته التلفزيونية، بعد أن كان حذّر قبلها بأشهر من عدم دفع سندات اليوروبوندز تحت طائلة الحجز على احتياطي الذهب المودع في الولايات المتحدة وعلى طائرات «الشرق الأوسط». والقضية هنا أكبر من أن يطالب مصرفي بإطفاء خسائره من المال العام، إذ بات السؤال الرئيسي: كيف يستخدم احتياطي الذهب وفي أيّ وقت؟
في حسابات المصرف المركزي والمصارف والحزب الداعم لهما، قرش المودعين «الأبيض» لم يعد متوفراً ليومهم الأسود ولا لأيّ يوم آخر، ويجري جسّ النبض اليوم حول امكانية مصادرة «القرش الأصفر»، وفقاً للاستراتيجية نفسها، إذ ثمة من يتحدث عن تسييل جزء من احتياطي الذهب لاستعماله عند استنزاف كل الدولارات الموجودة في مصرف لبنان. وذلك يمنحهم المزيد من الوقت للهروب من المساءلة وتنفيذ إصلاحات نقدية لإعادة الثقة بالنظام الاقتصادي والليرة اللبنانية، فيما في الواقع، لا يعدو الأمر كونه مراكمة للخسائر، لتصبح الاشكالية القائمة هي طريقة إطفائها وبأي ثمن من دون المسّ بموجودات الدولة، ولا سيما الذهب، لا من ناحية الشعارات الرنانة كـ«الثقة العالمية» و«ضمانة البلد»، بل رفضاً لاستخدام المال العام مجدداً لسدّ فجوة مصرف لبنان وتهرّب المصارف من مسؤولياتها.
من هذا المنطلق، يتحدث بعض الاقتصاديين؛ فبرأيهم احتياطي الذهب يستعمل في الأزمات الكبرى، وتلك أزمة نعيشها، لكن تسليمها لمن هدر المال العام وصادر ودائع الناس بمثابة جريمة، خصوصاً أن لبنان يملك نحو 9 ملايين و222 ألف أونصة موزعة ما بين المصرف المركزي وقلعة «فورت نوكس» الأميركية، بما قيمته اليوم نحو 16 مليار دولار. القيمة تلك فتحت شهية المصرفيين، فآثروا التسويق لفكرة تسييل الذهب في حال نفدت الدولارات أو فشلت المفاوضات مع صندوق النقد. المعادلة بسيطة برأيهم: الدولة اللبنانية طلبت مساعدات بقيمة 10 مليارات دولار من الصندوق، وبالتالي يمكن اللجوء الى الاحتياطي الأصفر لتأمين المليارات المطلوبة. أما لماذا تحميل الدولة وزر ما تسببت فيه سياسة مصرف لبنان وتغذت من خلاله باقي المصارف؟ «لأن خطة حزب المصرف الأساسية تقوم على تحميل الخسائر للدولة ومصادرة أصول الشعب وموجوداته من دون المس بأموال أصحاب المصارف ورساميل مصارفهم وأصحاب الودائع الكبيرة». ولأنه لا يمكن تسليم «رقبة» الدولة لمن أفلسها وقادها نحو الانهيار، يصبح مجرد إثارة موضوع الذهب جريمة. «خليهم يفلوا»، يقول الوزير السابق شربل نحاس «لنحقق انتقالاً سلمياً للسلطة ونؤلف حكومة انتقالية بصلاحيّات تشريعيّة تواجه تداعيات الإفلاس، وتضع أسس الدولة المدنيّة… بعدها نتكلم عن الموجودات وما يجب فعله».
«الذهب مقابل القمح والدواء»
ثمة سيناريو آخر متداول في إطار تسييل الذهب واستخدامه، وذلك رغم أن هناك استحالة لبيعه أو رهنه، بناءً على القانون الرقم 42 الصادر عن مجلس النواب اللبناني في العام 1986، والذي ينص على «منع التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، بصورة استثنائية، مهما كانت طبيعة هذا التصرّف وماهيته، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة»، إلا في حال قرر البرلمان الذي يقف غالبيته مع حزب المصرف، تعديل القانون. السيناريو هذا يستند إلى خضوع الدولة اللبنانية لقوانين محاكم نيويورك المدنية في حلّ أي نزاع بينها وبين الدائنين إذا ما تخلّفت عن السداد، على ما تنص اتفاقية إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، ما يضع الذهب اللبناني تحت رحمة قرارات المحاكم الأميركية في حال تم رفع دعاوى بحق الدولة. لكن المبدأ العام في القانونين الأميركي والانكليزي، وفقاً لوزير العمل السابق كميل بو سليمان، أن «أصول وأموال المصرف المركزي لا يمكن استعمالها لإطفاء دين الدولة»، كما أن من غير الممكن «حجز أصول الدولة الا بصدور حكم قضائي ونهائي، لكن ليس هناك من دعاوى أصلاً». ذلك لا يلغي، وفقاً لبو سليمان، محاولة الدائنين الحجز على أصول البنك المركزي بصفته غير مستقل عن الدولة، «لكن لدينا دفوع قوية لحماية الأصول». ويرى بو سليمان أن من الأسهل الحجز على احتياطي مصرف لبنان بالعملة الأجنبية الموجود في الخارج: «الخطر موجود، ولكن ما زلنا بعيدين عنه كثيراً».
ما سبق يقود الى مطالبة البعض، بمعزل عن كيف ولماذا استعمال الذهب، بأن يتم نقله الى لبنان بما أن المسبب الرئيسي لإيداعه في الولايات المتحدة، أي الحرب الأهلية، انتفى. الأساس في الحديث عن استخدامه اليوم، بحسب مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية شربل قرداحي، هو «بعض المصرفيين الراغبين في السطو على الذهب من منطلق ضرورة رهنه للاستمرار سنة ونصف أو أكثر».
يرفض اقتصاديون المس بأونصة ذهب واحدة، مطالبين بتحقيق جنائي للكشف عن طريقة صرف الأموال
والذهب بوصفه جزءاً من الاحتياطيات الخارجية «ممنوع المس به، لأن عليه ضمانة سيادية وهو مملوك من المركزي، وأيضاً كي يبقى ضمن بيان الميزانية ويطبع العملة في مقابله». ففي العادة يشكل الذهب والعملات 80 أو 90% من موجودات المركزي، لكنهما لم يشكلان بتاريخ 31/12/2019 سوى 35% من الموجودات في مصرف لبنان. في حين أن النقد بالتداول يمثل 90% من الموجودات، بينما لا يمثل لدينا سوى نحو 10%. رغم ذلك، هناك من يريد وضع كل احتياطيات الدولة اللبنانية على طاولة القمار. وهناك من يعتقد أن احتياطيات المركزي بالعملة الأجنبية لن تخدم طويلاً، وبالتالي يفترض تأمين اعتمادات للدواء والبنزين والطحين تجنّباً لتجويع الشعب. في هذه الحالة، «لن يأكل الناس ذهباً، بل ستضطر الدولة الى تسييل ذهبها لإطعامه. الحديث هنا استباقي، ولكن يفترض الشروع في إجراءات نقل هذا الذهب التي تستغرق وقتاً طويلاً». وهو افتراض خاطئ ولا يمكن طرحه من هذه الزاوية، وفقاً لوزير الاقتصاد السابق منصور بطيش: «قبل التطرق الى موضوع الذهب الذي يملكه الشعب اللبناني حصراً، يجب أن نعرف حقيقة أرقام مصرف لبنان، وعليه إطلاعنا على حلوله للأزمة وكيف يعتزم إطفاء الخسائر بالدولار. فالفجوة تزيد على 50 مليار دولار، وتتجاوز كل دين الدولة بالعملة الأجنبية (33.5 مليار دولار) وتحتاج الى تدقيق تشريحي جنائي يكشف لنا كيف وصلنا الى هذه الحال». من تلاعب بودائع الناس، بحسب بطيش، لن يصعب عليه التلاعب باحتياطي الذهب، ولا يمكن تغطية «الخطيئة» بواحدة أكبر. قبيل ذلك أيضاً، «نريد لائحة بموجودات الدولة وأصولها. كيف نطالب ببيع الذهب بغياب أي إحصاء جدّي للأصول ومن يستثمرها ومن يستفيد منها. يجب إقرار الإصلاحات قبل المس بأي قرش أو أونصة من المال العام».
من هذا المنطلق، يشير رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لـFFA Private Bank جان رياشي إلى أن تسييل الذهب جريمة. المطلوب إصلاح اقتصادي وحلّ لمشكلة الدولارات المتمثلة في «الفجوة» ما بين الدولارات المسجلة على الدفتر كودائع والدولارات الموجودة في النظام المصرفي. أما الذهب وباقي الاحتياطيات، فهما يمثلان جزءاً من ودائع الناس بحيث هناك 50 سنتاً من موجودات المصارف في البنك المركزي لكل دولار. هل ننفقهم اليوم ليبقى سنت واحد لكل دولار؟ الأولوية اليوم «لإعداد خطة تعيد إنعاش الاقتصاد وتعمل على تكوين ميزان مدفوعات إيجابي لتصحيح الخلل الحاصل من سوء النظام المصرفي». وبغياب أي إصلاح لهذا النظام، يستحيل بناء اقتصاد ناجح. بيع الموجودات لا يحل المشكلة، ولا يفترض أن يطرح ممن أنفقوا الدولارات ويريدون اليوم تسييل الذهب لسدّ فجواتهم: «أصلحوا النظام المصرفي»، يقول رياشي.