محمد وهبة
تقدّر كلفة سلّة السلع الغذائية والمواد الأولية المدعومة بما بين 1٫5 مليار دولار و1٫8 مليار دولار سنوياً، أي ما يوازي قيمة نصف السلع الغذائية التي كان لبنان يستوردها في السنوات الماضية. وسيتم تمويل استيراد هذه السلّة من الدولارات الآتية إلى لبنان بواسطة التحاويل الإلكترونية عبر المؤسسات غير المصرفية (OMT…).
تتضمن لائحة السلع المدعومة عشرات الأصناف التي أُدرجت فيها على مرحلتين. الأولى كانت في 27 أيار، والثانية يوم أمس. في المرحلة الأولى، كان الدعم عبارة عن تأمين الدولارات بسعر 3200 ليرة لاستيراد سلّة محدودة من السلع الغذائية الأساسية الجاهزة للاستهلاك أو المكمّلة للإنتاج المحلي. إلا أنه في المرحلة الثانية التي صدرت أمس، تقرّر توسيع سلّة السلع لتشمل عشرات الأصناف من السلع الجاهزة للاستهلاك والمواد الأولية التي ستموّل على أساس سعر الدولار 3900 ليرة.
هذا التخبّط في تسعير الدولار وفي تحديد اللوائح وآليات الدعم التي تمرّ بين وزراتَي الاقتصاد والزراعة والمصارف التجارية ومصرف لبنان، هو نتاج صراع امتدّ لأسابيع في الاجتماعات التي عقدت بين التجّار ووزراء الصناعة والزراعة بالتنسيق المباشر مع مصرف لبنان والمصارف التجارية وبإشراف مستشارين من رئاسة الحكومة أيضاً.
انتهى الأمر بإعداد لائحة ملغومة من السلع التي تختلط فيها السلع الأساسية والسلع التي يمكن الاستغناء عنها. فمن غير الواضح، لماذا سيدعم زيت الزيتون المكرّر، أو البصل، أو القشطة المعلّبة والجوز واللوز ومبيّضات القهوة وزبدة الكاكاو والبسكوت المحلّى والشوكولا الخام الأبيض والتوابل على أنواعها… ولعلّ الأغرب في خيارات وزيرَي الاقتصاد والزراعة، أنهما اختارا دعم سلع تستفيد من رسوم حمائية جمركية، أو سلع لها بديل مماثل محلّي. ليس واضحاً لماذا سيدعم تجار المواشي، وتجار اللحوم المبرّدة في الوقت نفسه، ولماذا سندعم التونة المعلبة والسردين والأسماك الطازجة أيضاً؟ ماذا عن الأسماك المحلية؟ وليس واضحاً لماذا سندعم الأجبان المبسترة بدلاً من تقديم الدعم للأجبان المحلية، وليس واضحاً لماذا سندعم المارتديلا والكورند بيف والهوت دوغ، والفستق الحلبي والزعفران… فهل هذا هو وقت الرفاهية؟ هل يحتمل لبنان الاستمرار بهذا النمط الاستهلاكي المبذّر؟
عملياً، قد تسقط هذه السلّة سريعاً أمام جشع التجّار الذين فرضوا جدول أعمالهم على كل المؤسسات الرسمية، بطريقة تثير الشكوك بأن العلاقات التي تجمع التجّار والمصرفيين والعاملين في الشأن العام هي أقوى من كل الأزمات. لا يمكن تفسير هذه العلاقة إلا بمسارات الفساد المنتشرة في بنية السلطة وشركائهم من أصحاب الرساميل. الفساد ما زال منتشراً وقادراً وقوياً. فمنذ النقاشات الأولى المتعلقة بسلّة الدعم، خاض المستوردون معركة نهب الدعم. يمثّل هذا الدعم فرصة ثمينة لمن هو قادر على إدخال مستورداته أو جزء منها في لائحة السلع المدعومة. هذه اللائحة توفّر لهم نوعاً من الاستقرار في إعادة تكوين مخزوناتهم، فضلاً عن أنها تمثّل فرصة كبيرة لتحقيق أرباح هائلة.
لماذا؟ لأنه خلال الأزمات المتصلة بارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية بشكل متسارع، وندرتها من الأسواق في بلد يعتمد على الاستيراد للحصول على السلع الأساسية، فإن التجّار يقومون بتسعير البضائع في المخزون أو تلك المعروضة للبيع على الرفوف بحسب توقعاتهم لسعر العملة الأجنبية (الدولار) على قاعدة «قيمة الاستبدال» (Replacement Value)، أي قيمة إعادة تكوين المخزون. بمعنى آخر، يسمحون لأنفسهم، بعيداً عن أي رقابة فعلية للسلطات، بتسعير السلع بشكل يومي أو حتى كل بضع ساعات انسجاماً مع تطورات سعر الصرف في السوق السوداء. هذا الأمر يسمح لهم بإعادة تكوين رساميلهم من جيوب المستهلكين، ويتيح لهم أيضاً الاستمرار في تحويل الليرات الناتجة من المبيعات والتي تفقد قيمتها سريعاً، إلى أصول (سلع) يتم تسعيرها بالدولار وفق السوق السوداء.
وإلى جانب هذا الأمر، تبيّن من ملفات الدعم الأولى التي وصلت إلى مصرف لبنان أن التجّار يطلبون دعم السلع، بينما هم يبيعون السلع المخزنة، أو المستوردة سابقاً، بأسعار أعلى بكثير بذريعة أنها مستوردة قبل الدعم. هذه اللعبة فيها الكثير من القذارة والجشع، لأن وجود الدعم يلغي تذبذب «قيمة الاستبدال» ويلغي مفاعيل ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء وانعكاساتها على توقعات المستوردين. هم سيستوردون السلع بقيمة موازية أو قريباً جداً من قيمة المخزون المستورد قبل شهرين عندما كان سعر الدولار في السوق السوداء ضمن حدود الـ 4000 ليرة. غير أن هدف التجّار من هذه اللعبة هو المزيد من النهب. الهدف هو ابتزاز الناس من أجل الحصول على دعم لقيمة المخزون السابق!
يمثّل هذا النوع من الدعم سياسة فاشلة في إدارة الأزمة – الانهيار، لكنه يأتي أيضاً في ظل فشل أكبر من قوى السلطة المتواطئة مع التجّار، إذ إنه ليس بإمكان هذه القوى مراقبة الأسعار المدعومة وليس لديها القدرة على ذلك أصلاً. في الأيام الماضية، نفذ مراقبو حماية المستهلك اعتصاماً عن العمل لأنهم مجبرون على إجراء جولات المراقبة بسياراتهم التي باتت كلفة صيانتها باهظة جداً (زيت سيارات، مكابح، دواليب… )، فما هي خطّة وزير الاقتصاد لمراقبة عشرات الأصناف؟ أصلاً، هل لديه القدرة على التمييز بين كميات السلع المدعومة التي ستعرض على الرفوف في السوبرماركت، وتلك التي سيتم تخزينها؟ هل بالإمكان مراقبة الأسعار يومياً؟
هذه الآلية الملغومة تشي بأن أصحاب الرساميل سيتحكّمون بالأمن الغذائي للبنان، وسينتشر أزلامهم في المناطق للحصول على قطعة من الجبنة. هم أصلاً انتشروا في المناطق وباشروا بالإجراءات المعتادة لتحويل الناس – الجوعى إلى زبائن في السياسة. إنه النظام يأكل نفسه ويأكل الجميع معه.
المصدر: الأخبار