اضطرت البنوك المركزية إلى خفض نسب الفائدة لمستويات تاريخية لمواجهة انفجار الديون، ومن غير المنتظر أن تقوم برفعها في المستقبل القريب، وستكون لهذه التطورات تأثيرات عميقة على اقتصاديات الدول والشركات والأفراد.
ويقول الكاتب إيريك ألبرت في تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية إن اللحظة الحالية تعد مشجعة للحكومات والشركات والأفراد على الاستدانة، إذ إن معدلات الفائدة لم تبلغ هذا المستوى من الانخفاض، كما أنه من غير المتوقع أن ترتفع قريبا.
ويضيف ألبرت أن العالم دخل في مرحلة وباء كورونا، فيما كانت معدلات الفائدة لا تزال منخفضة كجزء من مخلفات أزمة 2008، ومن أجل السماح للدول بالحصول على التمويل خلال هذه الأزمة فإن البنوك المركزية ذهبت إلى أبعد من ذلك، وقطعت خطوة جديدة في هذا العصر المالي الجديد الذي أصبحت فيه النقود تمنح بشكل شبه مجاني.
وينقل الكاتب عن ميكائيل باكو -من مؤسسة أكسا الفرنسية لإدارة الاستثمارات قوله- “إن الجميع متفقون على أن نسب الفائدة سوف تبقى منخفضة جدا ولفترة طويلة جدا”.
انخفاض نسبة الفائدة
ويقول ألبرت إن تبعات هذه السياسة على الاقتصاد العالمي ستكون مهمة، إذ إن قرارات البنوك المركزية -التي ستمكن من الحفاظ على نسب الفائدة بالقرب من الصفر- هي الظاهرة الأساسية التي سوف تخلق ارتدادات أخرى، فالأفراد الذين يرغبون في شراء منازل سوف تكلفهم عملية الاقتراض أقل، والأثرياء الذين يمتلكون استثمارات سوف يحققون الثراء مستفيدين من غياب العدالة وتزايد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية وبين الأجيال.
في المقابل، فإن الادخار البنكي لن يدر أي أرباح تذكر على أصحابه، حيث إن عملاء البنوك لا يحصلون على شيء تقريبا في مقابل الأموال التي يودعونها هذه الأيام، أما الدول فإنها ستستغل هذه الفترة لاقتراض مبالغ غير مسبوقة.
وتعود فكرة تدخّل البنوك المركزية لخفض نسب الفائدة عند حدوث الأزمات إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث إن الاحتياطي الفدرالي الأميركي كان أول من اتخذ هذا الإجراء في 1987 على إثر “الاثنين الأسود” الذي شهد انهيارا للبورصة، ليتدخل بشكل فوري معلنا استعداده لتوفير السيولة المالية.
ومنذ ذلك الحين باتت البنوك المركزية تقوم بنفس الدور لدعم الاقتصاد كلما دعت الحاجة، وخلال أزمة 2008 كان البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفدرالي الأميركي قد اتخذا لأول مرة قرارا بجعل نسبة الفائدة صفرا، وعندما تبين أن ذلك لم يكن كافيا شرعا في شراء الديون.
فرصة استثنائية للدول
ويقول الكاتب إنه من بداية الوباء يبدو الأمر كما لو أن الدول حصلت على الدجاجة التي تبيض ذهبا، وشرعت في صرف الأموال بدون حساب، ففي فرنسا -على سبيل المثال- وصلت المصاريف الحكومية إلى مستويات قياسية حين قررت الدولة ضخ 30 مليار يورو كتعويضات على البطالة الجزئية، و32 مليارا لتغطية مصاريف الشركات، إلى جانب عدة حزمات مساعدة أخرى لقطاعات صنع السيارات والطيران والسياحة.
اعلان
وهذا الكرم لم يكن ممكنا إلا بفضل تدخّل البنوك المركزية، حيث إن نسب الفائدة على القروض في فرنسا تبلغ صفرا تقريبا، وهي 0.4% في ألمانيا، و0.2% في بريطانيا.
وقد وجدت الحكومات نفسها أمام فرصة تاريخية بفضل الأزمة التي سببها وباء كورونا، حيث إنها أصبحت قادرة على ضخ مبالغ هائلة وأطلقت استثمارات كبرى، والفترة الحالية هي الأفضل على الإطلاق لبناء المستشفيات وتطوير المدارس ومختلف الأشغال العامة.
التفاوت سوف يزداد
ويقول الكاتب إن مالكي العقارات بدؤوا بفرك أيديهم بانتظار جني الأرباح من هذه الأزمة باعتبار أن أسعار المساكن سوف تواصل الارتفاع، وكانت هذه الأسعار قد شهدت ارتفاعا متواصلا منذ أزمة 2008 في أهم مدن العالم، مثل باريس ولندن ونيويورك.
ورغم أن كل مدينة لديها خصوصياتها فإن هناك عاملا مشتركا أدى إلى هذه الظاهرة، وهو انخفاض أسعار الفائدة، ففي منطقة اليورو على سبيل المثال تغير سعر الفائدة على القروض العقارية من 3% في 2013 إلى 1.5% حاليا، وهو ما يعني أن العائلات يمكنها اقتراض مبالغ أكبر لشراء منزل، وهذا يؤدي إلى تزايد المنافسة واشتعال الأسعار.
ولكن في نفس الوقت يحذر الكاتب من أن تضخم هذه الفقاعة العقارية -إذا زاد على حده- قد يؤدي في النهاية إلى انفجارها، وبالتالي انهيار الأسعار في سوق العقارات.
ويشهد سوق الأسهم نفس تلك الظاهرة، وبما أن سندات الإقراض لم تعد تدر أرباحا تذكر في ظل انخفاض سعر الفائدة فإن المستثمرين باتوا يبحثون عن عوائد أكبر، واتجهوا نحو المخاطرة أكثر من خلال التداول في البورصة، والدليل على ذلك هو الارتفاع الواضح في مؤشرات البورصات، والذي تراوح بين 30 و40% مقارنة بالنقطة الأدنى خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وهو ارتفاع يأتي رغم أن الاقتصاد لا يزال يواجه واحدة من أسوأ أزماته في التاريخ الحديث.
ويرى الكاتب أن الدرس المستفاد من الأزمة الحالية والأزمات السابقة هو أن الأثرياء سوف يواصلون تحقيق الثراء باعتبار أن مالكي الأصول يجنون أرباحا هائلة حاليا في أسواق الأسهم وأسواق العقارات في أنحاء العالم، وفي نفس الوقت فإن الأفراد والعائلات الأكثر فقرا يعانون من انخفاض في الأجور والإقبال على الاقتراض، ولذلك من السهل أن نتوقع أن التفاوت بين الأثرياء والفقراء سوف يتزايد خلال الفترة المقبلة.
وسوف يظهر هذا التفاوت أيضا بين الأجيال، إذ إن الشباب اليوم يصعب عليهم شراء مسكن أول، وفي المقابل فإن كبار السن الذين اشتروا مسكنا قبل 20 أو 30 عاما يمتلكون اليوم رأس مال تزداد قيمته بشكل سريع.
ونبه الكاتب أيضا إلى أن أصحاب حسابات الادخار بصدد التعرض للخسارة، باعتبار أن الأرباح التي سيجنونها على الأموال المودعة لن تتجاوز 0.5% في فرنسا على سبيل المثال.
المصدر : لوموند