بين عامَي 2000 و2019، بلغت قيمة تحويلات الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان نحو 22.8 مليار دولار. لم تُنفق هذه الأموال على مؤسسة كهرباء لبنان بل على دعم سعر مبيع الكهرباء الذي أُهدر القسم الأكبر منه على مافيات الفيول أويل
النقاش في جدوى إنشاء معمل كهرباء في سلعاتا ليس سوى مؤشر إلى طبيعة الصراع التحاصصي بين زعماء الطوائف ورغبة كلّ منهم في السيطرة على حصّة من كل قطاع. قطاع الكهرباء ليس استثناء، والتيار الوطني الحرّ يطالب بحصّة فيه تكون موازية ووازنة لحصص باقي الطوائف أو زعمائها. يسعى التيار لانتزاع اعتراف كامل بأنه الأقوى مسيحياً، ويصرّ على أن إنشاء معمل للكهرباء في سلعاتا موازاة لمعامل ديرعمار، والزهراني، والجيّة… لعلّ هذا الأمر يفسّر تعطيل زيادة القدرات الإنتاجية، إلا أنه لا يبرّر أبداً التقنين القاسي إلى درجة الانقطاع الكامل للتغذية بالتيار الكهربائي في الأسبوعين الماضيين. فما يحصل هو محور الصراع الحقيقي بين الطوائف ومصدر الهدر الأساسي. فرغم وجود معامل كهرباء قادرة على إنتاج نحو 2000 ميغاوات يومياً، إلا أن هذه المعامل لم تنتج سوى 675 ميغاوات في المتوسط خلال الأسبوعين الماضيين بسبب نقص مادة التشغيل، أي نحو 18% من الطلب الأقصى البالغ 3700 ميغاوات في مثل هذا الوقت من السنة.
وتزامن حصول التقنين مباشرة بعدما انكشفت حقيقة دخول شحنة فيول مغشوشة. الأمر لم يكن بمثابة شحنة مغشوشة فقط، بل كان مساراً منظّماً فيه الكثير من قنوات التوزيع المحليّة والعربية أيضاً. فمن المثير للاستغراب، أن لبنان لديه معامل كهرباء مثل ديرعمار أو يستأجر معامل عائمة (بواخر كهرباء) وكلّها قادرة على أن تعمل بواسطة الغاز الطبيعي بكلفة متدنية وبفعّالية أكبر، لكنه لم يتقدّم خطوة واحدة في هذا الاتجاه. كان دائماً هناك إصرار حكومي على استعمال الفيول أويل إلى أن أقرّ مجلس الوزراء في عام 2005 توقيع عقدين من دولة لدولة، على اعتبار أنها أوفر وتضمن استمرار التوريد مع الجزائر (سوناطراك) والكويت (الشركة الكويتية للنفط). وعلى مدى تلك السنوات، سمعنا كثيراً عن فساد في هذه الصفقات، من أبرزها شراء الفيول عبر وسطاء، من دون وجود أثر لفاسدين. وأكثر من مرّة تكرّر تفسير إطفاء كل المعامل الموصولة على شبكة الكهرباء لمدّة ساعتين بوجود فيول مغشوش، لكن لم تجر أي تحقيقات.
لعلّ علاقات الوسيط بالكل كانت أقوى، ولعلّ السرّ يكمن في «العقود». فبحسب مدير العمليات في شركة BB Energy طارق حافظ، فإن العقد يسمح لشركة «سوناطراك» بشراء الفيول من أي جهة تراها مناسبة وهي «اشترته من عدّة شركات عالمية من بينها BB Energy». وعندما استدعي مالكو الشركة إلى القضاء بشأن ملف الفيول أويل المغشوش، قالوا إنهم توقفوا عن لعب دور «الوسيط» منذ سنوات لمصلحة شركة «ZR Energy».
الوثائق المتعلّقة بالنقاشات الرسمية بشأن تجديد العقود مع الشركتين عدّة مرات تشير بوضو ح إلى الفيول المغشوش. فقد تبيّن أنه في الوقت الذي استأجر فيه لبنان بواخر الكهرباء التركية، اضطر لبنان لأن يغيّر العقود لتوريد نوعين من المواصفات الخاصة بالفيول أويل. هناك فيول أويل (A) وفيول أويل (B). الثاني هو للمعامل التركية وللمعمل الجديد في الذوق والجية التي لا يمكنها أن تستعمل الأول لأنه رديء ويمكن استعماله في المعامل القديمة. منذ عام 2011 إلى اليوم يستورد لبنان سنوياً 1.154 طناً مترياً من الفيول أويل (A) و750 ألف طن متري من الفيول أويل (B). توريد هذه الكميات هو على عاتق شركة «سوناطراك» فقط ولا دخل للكويت فيها، ما يجعلها حصرية بيدها ويمنحها قدرة واسعة على التحكّم بها وبأسعارها ويمنح الوسيط دوراً كبيراً أيضاً… كل ذلك علماً بأن الجزائر لا تنتج فيول أويل أبداً.
تبيّن لاحقاً أن العقد فيه الكثير من الشوائب. فليس مفهوماً لماذا نشتري بمتوسط سعر يعود إلى أسابيع مضت، بينما يمكن حصر مدّة التسعير لتكون أكثر دقّة. هذا الأمر وحده يمنح البائع القدرة على التسعير في أوقات يكون فيها السعر العالمي مرتفعاً. بعض الدراسات تشير إلى إمكانية توفير 25 دولاراً في كل طن مستورد. كما أن لبنان يدفع كلفة النقل مسبقاً في العقد من دون أي مبرّرات واضحة. يقول تجار النفط إنه يجب نقل مخاطر النقل والتأمين على عاتق المستورد فوراً. هذه كلفة لا يجب أن تُسدّد من الخزينة اللبنانية التي تدفع للمستورد قيمة الشحنة في البورصة العالمية مضافاً إليها العلاوة (بريميوم). هذه الأخيرة تشمل كل الأكلاف. أما طريقة الدفع وآليات التصريح عن الاستيراد فيجب أن تكون أكثر دقّة، لأنها تمنح المستورد قدرة واسعة على التلاعب. يجب على المستورد تسمية الناقلة فور تحميلها وتحديد الكمية، ووقت الوصول المتوقّع وسوى ذلك من تفاصيل تساعد على التسعير المناسب وأن تخضع لرقابة في مرفأ التفريغ وفي مرفأ التحميل أيضاً، واعتبار وقت الوصول، أي الوقت الذي تبدأ فيه الشركة باحتساب كلفة الرسو على الدولة اللبنانية، قبل الخامسة مساء.
المصدر: الأخبار