منافذ تحويل الدولار إلى لبنان تقفل الواحد تلو الآخر. فبعد قطع دابر الدولار المتأتي من السياحة والاستثمارت المباشرة، إمتص الدعم تحويلات المغتربين الكترونياً. منفذ واحد عبر المصارف بقي مفتوحاً بحذر تحت صيغة الاموال الطازجة Fresh money. فهل يقفل هو الآخر ويتحول لبنان إلى جزيرة منزوعة العملة الخضراء؟
النية بوقف التداول نهائياً بالدولار موجودة منذ بداية الازمة. ومساعي المصارف ومصرف لبنان لشرائه من مختلف المصادر لم تتوقف يوماً. في الأشهر الاولى من العام الحالي طرحت المصارف التجارية فكرة شراء الدولار المحول اليها بسعر السوق، إلا ان البحث بهذه الفكرة تأجل بطلب من “المركزي” ريثما يصار إلى انشاء المنصة الالكترونية. وللتأكد أكثر من عدم استنسابية المصارف في دفع التحاويل الواردة اليها، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 150 الذي يطلب فيه من المصارف تسديد قمية التحاويل كاملة وبالعملة نفسها، وترك حرية التصرف بالحوالات ايداعاً، تحويلاً وقبضاً للمستفيد، تحت طائلة انزال العقوبات بالاستناد الى قانون النقد والتسليف. أكثر من ذلك فان كل مشاريع قوانين الكابيتال كونترول التي اعدت في مجلس الوزراء ولم تبصر النور، والقانون الذي يعمل عليه في المجلس النيابي، تستثني جميعها أي قيد ممكن ان يوضع على التحاويل الخارجية. حتى انها ستقر بمفعول رجعي لغاية تشرين العام الماضي.
دفع الاموال الطازجة بالليرة
ما سرى منذ 17 تشرين الاول ولغاية الآن معرّض، بحسب النائب فؤاد مخزومي، إلى الانهيار. حيث قال في تغريدة له ان “مصرف لبنان سيصدر تعميماً يمنع اللبنانيين من الحصول على مبالغ محولة من الخارج بالدولار fresh money وسيقوم بتحويلها إلى الليرة اللبنانية بسعر السوق. ولكن مضاعف مرتين”. الجديد بالقرار الذي فضحه مخزومي أمران: الاول هو ان مصرف لبنان هو الذي سيستفيد من الدولار المتأتي من قيمة التحاويل وليس المصارف. والثاني انها لن تدفع بحسب سعر المنصة الذي تعامل على اساسه التحويلات الالكترونية، بل مضاعفاً مرتين أي 8000 ليرة. وفي هذا اعتراف صارخ بسعر السوق السوداء.
مخزومي الذي تمنى ان يكون نفي مصرف لبنان لهذا القرار جدياً، قال ان “هناك معلومات موثقة بأن ثلاثة من أكبر المصارف تدفع جدياً باتجاه اعتماده. ان لم يكن 100 في المئة فـ 50 في المئة في المرحلة الأولى، ليصار إلى رفعه تدريجياً”.
مما يعزز هذه المعلومات التي كشفها مخزومي هو التراجع الكبير في تحاويل الدولار عبر شركات تحويل الاموال الكترونياً مع إعادة فتح المطار وحمل المغتربين الاموال النقدية لذويهم معهم. “فتضاءل الرهان على استعمال هذه الدولارات في دعم السلة الغذائية، وتعمقت الحاجة إلى العملة الخضراء”، يقول مخزومي. “ولم يعد أمامهم من خيار إلا وضع اليد على التحاويل عبر المصارف أو ما يعرف بـ fresh money من أجل تجميع الدولار والاستمرار في عملية الدعم”.
تعميق انهيار الليرة
التنكر لقرار دفع التحاويل بالليرة اللبنانية لم يبرّد قلب المراقبين. فمن صادر دولار التحاويل الالكترونية، وأجبر الشركات على اعطائه بالليرة اللبنانية، بحسب سعر يقل بأكثر من 50 في المئة عن سعر السوق الحقيقي، لن يتردد في وضع اليد على الاموال الطازجة. إلا ان هذا القرار لن يمر مرور الكرام بل “سيرفع سعر الدولار إلى السحاب”، برأي الخبير الاقتصادي باتريك مارديني. “وسيكون أسوأ قرار يتخذ بحق سعر الصرف”.
إقفال آخر مداخل الدولار إلى لبنان عبر حسابات Fresh account سيدفع إلى تراجع أو حتى وقف عملية التحويل عبر المصارف نهائياً. وهذا ما سيؤدي من وجهة نظر مارديني إلى “أمرين بالغي الخطورة: الاول، هو انخفاض عرض الدولار في السوق. ما يعني عملياً زيادة سعره أكثر، بناءً على قاعدة العرض والطلب. أما الثاني، فهو طباعة المزيد من العملة الوطنية لتلبية دفع التحاويل بالليرة. وهذا التوسع بالكتلة النقدية سيؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار وتدهور هائل بسعر الصرف”.
النتيجة التقنية المحتومة لـ “ليلرة” التحاويل على سعر الصرف، تقابلها تداعيات أشد خطورة من الناحية النفسية، لا تؤخذ في الاعتبار. فـ “بمجرد الحديث عن امكانية توقف المصارف عن دفع الدولار المحول نقداً سيدفع إلى موجة ارتدادية للتخلص من الليرة وشراء الدولار. وذلك إما نتيجة الخوف من انقطاعه وإما للمضاربة نتيجة التأكد من ارتفاع سعره مستقبلاً”، يقول مارديني. “وفي جميع الاحوال فان من يدفع الثمن غالياً هو سعر الصرف وكل من يتقاضى دخلاً أو أجراً بالليرة اللبنانية”.
ضرب الانتاج
هذا من الناحية النقدية، أما من الناحية الإقتصادية فان وقف تدفق الدولار إلى لبنان يعني “قتل” كل محاولات تحويل الاقتصاد من ريعي إلى انتاجي. حيث لا يعود هناك من مصلحة للمنتجين بزيادة صادراتهم لتأمين العملة الصعبة، بل تتعزز عملية فتح حسابات خارجية تحول اليها عائدات التصدير. ما يحرم البلد من الدولار بشكل نهائي.
بغض النظر عن كل المخاطر لمثل هذا القرار، فان سعر الصرف في السوق سيرتفع باطراد مع القيمة التي ستدفع فيها التحاويل بالليرة. وسيدخل البلد في موجة جديدة من تراجع سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع الاسعار والتضخم. وهو يعني عملياً ضرب شريحة واسعة من اللبنانيين تعتمد بشكل أساسي على التحاويل الخارجية واعدام 50 في المئة من الشعب اللبناني أصبح يعيش تحت خط الفقر.
خالد أبو شقرا – نداء الوطن