على خطى أريتريا.. وضع لبنان الإقتصادي خارج السيطرة!

الوضع الإقتصادي أصبح خارج السيطرة نهائيًا! هذا أقلّ ما يُمكن قوّله عن الإقتصاد اللبناني بعد كل الصدمات التي عصفت بلبنان من العقوبات على جمّال تراست بنك، وصولا إلى تفجير المرفأ في بيروت، ومرورا بثورة تشرين ووباء كورونا وإفلاس لبنان. وبالتالي، لا يُمكن البحث بمقومات إقتصادية وإعادة تفعيلها من دون أن يكون هناك تعديل للمشهد السياسي القائم. فلبنان وقبل تفجير مرفأ بيروت، كان يعيش في ظل أزمة مالية – إقتصادية – نقدية نتيجة الفساد القائم الذي منع لبنان من بناء هيكلية إقتصادية سليمة إذ أدّى غياب السياسيات المالية إلى خلق إقتصاد مبني بالدرجة الأولى على التجارة والريع. وزاد الأمر تعقيدًا توقف دفع سندات اليوروبوندز من دون أي مفاوضات مع الدائنين مما وضع لبنان حكمًا في خانة الدول المُفلسة مع دين عام يفوق الـ 91 مليار دولار أميركي ويزداد بلا رقابة لا سيما مع عجز بلغ 4 تريليون ليرة لبنانية في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.

ولم يكن وضع الليرة اللبنانية في السوق السوداء أفضل حالا مع المضاربة الشرسة التي أوصلت سعرها إلى 10000 ليرة مقابل كل دولار. ولعل الهبوط الحالي في سعر الصرف على الرغم من كل الاوضاع المتردية، يُشير بوضوح إلى أن السعر في السوق السوداء كان بلا ريب نتيجة المضاربة بخلفيات سياسية – ربحية.

هذا الواقع لا ينفي المُشكلة الخطيرة المُتمثّلة بطبع العملة حاليًا والذي يفوق 1.5 تريليون ليرة شهريًا، مع التنبيه على أن الإستمرار على هذه الوتيرة سيؤدّي حكمًا إلى تضرر سعر الصرف (الحقيقي) على المدى المتوسّط إلى البعيد.

النشاط الإقتصادي اليوم يُمكن إختزاله بالصناعة الخفيفة والتجارة بالمواد الغذائية بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن هذه المرحلة هي مرحلة إستنزاف لموارد اللبنانيين. وإذا كانت جائحة كورونا مُستمرّة ولكن بوتيرة أعنف (400 إصابة البارحة) في ضرب النشاط الإقتصادي، فإن الإستمرار على هذه الحال سيفرض حكمًا إعادة إقفال البلد نظرًا إلى أن 50% من الإصابات غير معروفة المصدر! مما يعني مزيدًا من التدهور الإقتصادي.

وجاء إنفجار المرفأ ليزيد الطين بلّة مع ضرب الشريان الحيوي لإقتصاد قائم على الإقتصاد مع أكثر من 75% من الشركات التي تعتمد بشكل أو بآخر على الإستيراد والتصدير. وبالتالي، فإن الناتج المحلّي الإجمالي مُرجّح للإنخفاض من جديد إلى مستويات تتراوح بين 26% و35% مع المعطيات الحالية. أي بمعنى أخر، إذا ساءت الأمور أكثر من الممكن أن نشهد إنخفاضًا إضافيًا في هذا الناتج تبعًا للتطورات السياسية… والأمنية!

هذا الواقع يُذكّرنا بواقع دولة إريتريا التي تعيش على تحاويل المُغتربين وعلى المساعدات الدولية بسبب الصراعات المُسلّحة والفساد وذلك على الرغم من إمتلاك هذه الدوّلة لموارد طبيعية قادرة على إنعاش إقتصادها وتأمين حياة كريمة لمواطنيها.

خطوات إلزامية

من المعروف أن صلاحيات حكومة تصريف الأعمال محدودة وهي بحسب القانون تنصّ على تصريف الأعمال بمعناه الضيق. إلا أن هناك واجبات على هذه الحكومة، بإنتظار تشكيل حكومة جديدة، أقلها أن تعمد بشكل جدي وفوري إلى خفض النفقات لأن الإستمرار بوتيرة العجز الحالي سيؤدّي إلى ضرر كبير على صعيد النقد!

من ناحية أخرى، على الحكومة العتيدة المنوي تشكيلها، بالإضافة إلى الشق الإستراتيجي الإصلاحي الذي أصبحت خطوطه العريضة معروفة، عليها وضع خطّة إنقاذية على المدى القصير جدًا وذلك لإستيعاب تردّدات كل ما سبق ذكره من أحداث وبالتحديد لجم الفقر الذي أصبح خطرًا كيانيًا على لبنان إضافة إلى تحفيز الإقتصاد من خلال خطوات لها تأثير فوري ومباشر على الثقة بالإقتصاد لكي تعود الإستثمارات الخليجية والدولية.

على هذا الصعيد، يتوجّب القول أن الإعتماد على صندوق النقد الدولي وحده لجلب المليارات لن يكفي للخروج من الأزمة. فمؤتمر باريس 1 أمّن مساعدات بقيمة 500 مليون يورو، وباريس 2 أمّن مساعدات بقيمة 4.2 مليار يورو، ومؤتمر ستوكهولم أمّن مساعدات بقيمة مليار يورو، وباريس 3 مساعدات بقيمة 7.6 مليار يورو ومع ذلك لم يأتوا بنتيجة ملموسة على الأرض بسبب غياب الإصلاحات وتفشّي الفساد! أما اليوم فإن مساعدات مالية بقيمة 10 مليار دولار أميركي يطلبها لبنان من صندوق النقد الدولي، لن تكون كافية لنهوض لبنان والخروج به من هذه الأزمة إذ لم تترافق مع برنامج إصلاحي واضح يتمّ فيه فصل السياسة عن الإقتصاد إذا إن للسياسة تأثير مباشر وفوري على القرارات الإقتصادية أقلّه من باب الحكومة المنوي تشكيلها والتي من الظاهر أنها لن ترى النور قريبًا!

الإقتصاد رهينة العوامل السياسية

«لا إنتخابات نيابية مبكرة لأنها تُصبح إنتخابات إنفعالية لا تُمثّل الشعب بصورة حقيقية»، هذا ما قاله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في معرض مقابلته مع التلفزيون الفرنسي. هذا التصريح الذي تتوافق عليه القوى السياسية التي تُشكّل الأغلبية النيابية، يُشكّل عقدة جديدة أمام حلحلة الوضع السياسي المتأزم بحكم أن هذا الأمر هو مطلب قسم من اللبنانيين. الرئيس عون وفي معرض جوابه عن الحكومة الجديدة قال إنه بدأ فورًا مشارواته لإعتماد أكثرية مُعينة كي تبدأ الإستشارات مع النواب.

إلا أن المُعطيات على الأرض تُشير أن لا إستشارات نيابية قبل أيلول بحكم أن تجربة شبيهة بحكومة الرئيس حسان دياب، ستأتي بنفس النتائج ولن يكون هناك تعاون بين المجتمع الدولي وبين هذه الحكومة. وبالتالي فإن اللبنانيين المنقسمين على كل شيء يسعون إلى ربح الوقت وينتظرون عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أيلول لمناسبة ذكرى مئوية لبنان الكبير لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور من طروحات وإقتراحات لا تتعلّق بالضرورة بإسم رئيس الحكومة بقدر ما لها علاقة بحيادية الحكومة.

عمليًا هناك أربعة سيناريوهات مطروحة:

أولا – حكومة على شكل حكومة الكاظمي، وهو ما يحتاج إلى ضوابط لكي لا يكون هناك مواجهات غير محمودة؛

ثانيًا – حكومة على شكل حكومة دياب، وهي حكومة ستفشل حتماً نظرًا إلى عدم تعاون المُجتمع الدولي معها؛

ثالثًا – حكومة تكنوقراط حقيقية تحت مظلة دولية مما سيفتح الباب أمام عودة الإستثمارات، لكن هذا الأمر يواجه بمعارضة داخلية شرسة خوفًا من أثمان سياسية؛

رابعاً – البقاء على حكومة تصريف الأعمال حتى إنتهاء الإستحقاقات الكبيرة مثل الإنتخابات الرئاسية في الولايات المُتحدة الأميركية.

واقعيًا الأمور مُعقدّة نظرًا إلى تداخل عوامل داخلية وخارجية عدّة في اللعبة السياسية:

أولا – لبنانيًا، كما ذكرنا أعلاه، هناك مُشكلة إقتصادية ناتجة عن الأزمة الإقتصادية – المالية – النقدية القائمة منذ أيلول الماضي، تفشي وباء كورونا وإنفجار مرفأ بيروت، حيث أصبح معها (أي المُشكلة الإقتصادية) لبنان غير قادر على كفاية نفسه غذائيًا، وصحيًا، ونفطيًا وبالتالي أصبحت المساعدات الإنسانية التي يُقدّمها المُجتمع الدولي أسياسية لتفادي كارثة إجتماعية مما يعني ضغطاً إقتصادياً على لبنان يُمكن إستخدامه سياسيًا.

ثانيًا – الصراع الأميركي – الإيراني والذي سينتهي حكمًا بإعادة توقيع إتفاق نووي جديد سواء تمّت إعادة إنتخاب ترامب أو تمّ إنتخاب بايدن. إلا أن التصعيد الحالي والذي ينعكس على الساحة اللبنانية بشكل واضح، يُمكن وضعه في خانة تحسين شروط التفاوض بين الطرفين. هذا التصعيد قد يحول دون تشكيل حكومة في لبنان في الفترة المُقبلة وبالتالي يتوجّب إنتظار تغيرات إقليمية أو دولية لتشكيل هذه الحكومة.

ثالثًا – صفقة القرن والتي بدأ تنفيذها فعليًا مع توقيع الإمارات العربية المُتحدة مذكرة تفاهم مع إسرائيل. هذه الصفقة تحوي في شقّ منها على الضغط على لبنان لتطبيق القرارات الدولية وبالتالي يأتي قرار المحكمة الدولية غدًا ليزيد من الضغط على حزب الله ومعه على مسار تشكيل الحكومة.

رابعًا – لا يُمكن تجاهل البوارج الراسية مُقابل الشواطئ اللبنانية والتي على الرغم من طابعها الإنساني، إلا أنها تُشكّل مصدر قلق خصوصًا أنها مُتعدّدة الجنسيات مما يطرح إحتمال وجود إتفاق دولي على مراقبة الحدود البحرية والبرية والجوية اللبنانية ضمن سيناريو وضع لبنان تحت الفصل السابع (مقالنا في الديار عدد 11214 تاريخ 10 آب 2020). هذا الأمر يُشكّل ضغطاً إضافياً على المشهد السياسي الداخلي خصوصًا من ناحية تصلّب بعض المواقف الداخلية وبالتالي التأخير بتشكيل الحكومة.

خامسًا – الموقف الإيراني المُتمثلّ بالدعم المُطلق لحزب الله من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران والتي ترى في البوارج الغربية الراسية في لبنان تهديدًا واضحًا للبنان والمقاومة وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف نهار الجمعة الماضي على إثر زيارته بيروت. بالطبع هذا الأمر يُشكّل ضغطًا إضافيًا على تشكيل الحكومة.

سادسًا – الصراع التركي – الخليجي والذي بدأت ملامحة بالظهور داخليًا في لبنان مع إستعداد تركيا للمساهمة في الإعمار خصوصًا الأماكن الدينية وطرحها إعطاء الجنسية التركية للبنانيين من أصل تركي. هذا الواقع وإن كان محدود التداعيات، إلا أنه يُشكّل حافزاً إضافياً لوضع عراقيل من قبل الأفرقاء الداخليين من ناحية تشكيل الحكومة.

عمليًا ومع دخول لاعبين جدد على الساحة الداخلية، أصبح لبنان مطوّقاً وبالتالي فإن تدويل القضية اللبنانية أصبح أمراً واقعا لا يُمكن نكرانه على الرغم من تصريحات القوى السياسية بأن تشكيل الحكومة هو شأن لبناني محض.

 

مصدربروفسور جاسم عجاقة - الديار
المادة السابقةالبلكسي بدل الزجاج
المقالة القادمةبورصة الزجاج والألومنيوم تتحكم بالمتضررين: الدفع بالدولار نقداً