قاسٍ هو مشهد طوابير السيارات امام “الكازيات” في سوريا، ليس لكونه “عرضاً مسبقاً” لما سيصيبنا قريباً فحسب، إنما لاستنزافه ما تبقى من أموال المودعين، وتحويله إلى جيوب المستفيدين. قلة قليلة من “تجار الأزمات” في الدولتين، تستغل ثغرات نظام إدارة الأزمة، لتشفط آخر “دولار” من أمام اللبنانيين والسوريين.
في الوقت الذي تواجه فيه مناطق سيطرة النظام السوري نقصاً غير مسبوق في “القمح” المدعوم، والمشتقات النفطية التي تباع على البطاقة الذكية، تستمر أزمة المحروقات في لبنان. العلاقة بين السوقين التي من المفروض ان تكون عكسية، بمعنى ان فقدان السلع والمشتقات النفطية في سوريا يعني وقف التهريب من لبنان وبالتالي توفر المواد في السوق الداخلية، هي في الواقع طردية. وهذا ما يظهر بوضوح خارج الأطر والآليات الرسمية. فالمشتقات النفطية ما زالت تُفقد من لبنان وتظهر في السوق السوداء السورية. وذلك على الرغم من الضغوط التي يسببها قانون العقوبات الاميركية “قيصر”.
البضائع متوفرة في السوق السوداء
النقص الكبير في المشتقات النفطية التي تصل إلى النظام بشكل مباشر، والتراجع الحاد في انتاج مصفاة “بانياس” أجبر النظام على تحديد كوتا لتعبئة مادة “البنزين” المدعوم على سعر 250 ليرة لليتر الواحد. فخفضت وزارة النفط السورية الكمية المسموح بها للسيارت الخاصة إلى 30 ليتراً كل 7 أيام، فيما سمحت بتعبئة الكوتا المسموح بها للسيارت العمومية كل 4 أيام.
مقابل اصطفاف مئات السيارات امام أبواب “المحطات” من اجل تعبئة الحصة الوقودية، ووصول فترة الانتظار إلى 20 ساعة يومياً، “يوجد في داخل المحطات وخارجها أبواب “خلفية” تتوفر فيها المشتقات النفطية بكثرة”، يقول أحد الناشطين السوريين. “لكن هنا السعر يختلف. إذ يبلغ سعر الليتر الواحد من البنزين حوالى 2000 ل.س، أو ما يعادل 1$ بحسب سعر صرف السوق”. وبرأيه فان “سعر الصفيحة الواحدة في السوق السوداء ( 20$) يوازي متوسط دخل أكثر من ثلثي الشعب السوري، وهو ما لا يستطيع تحمله إلا طبقة الاثرياء وأمراء الحرب”. لكن من أين يتوفر البنزين وبقية المشتقات في السوق السوداء؟
تجيب مصادر مطلعة على ان “الاحتمال الأكبر هو استمرار التهريب من لبنان. فالعقوبات القاسية التي يفرضها “قيصر” حدّت بشكل كبير من تدفق السلع والمواد من روسيا وإيران، سواء عبر المنافذ الشرعية أو غير الشرعية. وفي الوقت نفسه تراجعت بشكل لافت وتيرة بيع النظام مادتي القمح والنفط من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، المدعومة من الولايات المتحدة التي تفرض العقوبات. حيث من المعروف ان هذه “القوات” تسيطر على مكامن انتاج النفط وزراعة القمح في منطقة شرقي نهر الفرات ودير الزور والحسكة والرقة”.
إعادة “دولرة” الودائع المحجوزة… نقدياً
ما يشجع على استمرار التهريب من لبنان إلى سوريا ليس سهولته، ووجود عشرات المعابر الفسيحة والمحمية فقط، إنما اتاحته فرصة فريدة لتحويل الودائع بالعملات الاجنبية المحجوزة إلى دولارات نقدية. فالطريقة الفضلى لتهريب الودائع، في ظل دعم القمح والمشتقات النفطية بنسبة 85 في المئة، هو سحب المودع امواله بالليرة اللبنانية وشراء النفط والقمح المدعومين وتهريبهما إلى سوريا، ليباعا في السوق السوداء. وبهذه الطريقة يشتري المهرب صفيحة البنزين بـ 24600 ليرة ويبيعها في سوريا بـ 20 دولاراً أو ما يعادل 150 الف ليرة بحسب سعر صرف السوق. وبذلك يكون الفرق المحقق في الصفيحة الواحدة هو 125400 ليرة لبنانية. هذا الواقع الذي يفسّر تكرار ازمة المحروقات في لبنان، رغم وفرة الاستيراد وافتراض تراجع الطلب الداخلي بسبب الحجر والانكماش، يخسّر الاقتصاد مرتين؛ مرة بخسارة احتياطي العملات الاجنبية، التي ذهب منها أكثر من 10 مليارات دولار على الدعم في غضون سنة ونيّف، ومرة بالتضخم الهائل نتيجة طباعة العملة الوطنية لتأمين السحوبات الكبيرة بالليرة.
اللاحل!
قريباً سيُرفع الدعم، إن كان ليس كلياً، فجزئياً. وتأخير الاصلاحات المطلوبة نتيجة “الجهل” السياسي سيقودنا سريعاً إلى السيناريو السوري. عندها سيتوقف التهريب، صحيح. إنما الوقت للتعويض سيكون قد مضى. خصوصاً مع استمرار نزيف الاحتياطي الالزامي من العملات الأجنبية، والذي اصبح يقدّر بحسب بعض الدراسات بـ 13.4 مليار دولار. رب قائل ان الدعم على القمح والنفط والدواء منذ حوالى السنة، جنّبنا ارتفاعاً جنونياً بالاسعار. لكن الحقيقة ان هذا الدعم كانت كلفته على الاقتصاد والمودعين أكبر بكثير من فوائده التي ذهبت إلى جيوب البعض. أليس من المحتمل ان يكون سعر صرف الدولار قد ثبت عند حدود 4 آلاف ليرة لولا بدعة الدعم؟ وألم يكن ذلك أفضل للمحافظة على القدرة الشرائية، من دعم 3 أصناف بشكل مشوه لفترة صغيرة، والابتلاء بسعر جنوني لبقية السلع والخدمات؟
في علم الاقتصاد يقال ان “الاسواق تعدّل نفسها بنفسها”، وهذا ما كان سيحصل تلقائياً في لبنان نتيجة تراجع استيراد النفط ووقف استعمال الطحين المدعوم للحلويات والتركيز على الصناعات الوطنية، وإجبار الدولة البدء بالاصلاحات الجذرية، بدلاً من الاعتماد على ما تبقى من دولارات المودعين وطباعة العملة الوطنية.