في مقال سابق تناولنا إمكانية وضرورة عقد اتفاق طائف اقتصادي – مالي بانتظار التوافق على عقد سياسي جديد للبنان.
صاحب الفكرة هو الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، الذي لم يسم الشق الاقتصادي من مبادرته اللبنانية بطائف جديد إلا أنه سار بالفعل على هذا الدرب، وهذا أمر منطقي للغاية، لأن معالجة الانهيار الذي تسببت به مرحلة الطائف تقتضي على الأقل إعادة النظر بكيفية تطبيق هذا الاتفاق، ومن ثم البحث عن بديل إذا كان العطل فيه بنيوياً.
في المؤتمر الصحفي الأخير عن لبنان من قصر الإليزيه بعد اعتذار السفير مصطفى أديب عن عدم تشكيل الحكومة، هاجم الرئيس الفرنسي بعنف الطبقة السياسية اللبنانية، لأنها أخلّت بوعودها السياسية، ولكن أيضا لأنها قبضت الرشاوى كحصة ثابتة لها من الأرباح الهائلة للمصارف في السنوات والعقود الماضية، سواء من الهندسات المالية، أو من الفوائد المرتفعة على ودائع من يسمونهم كبار المودعين، وهم في الغالب من السياسيين. وقد استنكرت قوى سياسية عدة هذا الاتهام المعمم، واستهجنت قول ماكرون “أن الجميع قبضوا”.
الرئيس الفرنسي وجّه سهامه نحو المصارف اللبنانيّة، مذكرا بسلسلة “البونزي” التي قامت بها في السنوات الماضية، وبشبكات المنافع التي نسجتها مع كبار المسؤولين، رابطاً بين هذا الواقع وانهيار الثقة التام بالنظام المصرفي في الوقت الراهن.
التحرك الفرنسي في الاتجاه المالي بدأ سريعاً، ولم يتوقف عند المعطى السياسي والمتمثل بعملية تأليف الحكومة، فهذه المحطة قد تحتمل انتظار تفاهمات محلية – اقليمية – دولية، ولكن ما لا يحتمل الانتظار هو النظر في واقع مصرف لبنان مع تزايد الحديث عن نفاد الدولارات منه، والقرار المفجع المرتقب برفع الدعم عن السلع الأساسية الثلاث (القمح والدواء والمحروقات)، وما سيُجرُّه من ويلات على اللبنانيين قد تقارب حدوث مجاعة، وما يمكن أن يؤدي إليه من انفجار اجتماعي.
وتوجه الجانب الفرنسي مباشرة إلى ما يمكن أن يساعد الجانب اللبناني على استئناف مفاوضاته مع :صندوق النقد الدولي: والهيئات المانحة من أجل استعادة الثقة الدولية المفقودة بالمؤسسات الرسمية اللبنانية المالية والإدارية، على أمل منح لبنان بعض المساعدات أو القروض العاجلة، لتعزيز احتياطات البنك المركزي وتأمين السيولة التي تحول دون قرار رفع الدعم.
المعلوم أن المفاوضات مع “صندوق النقد” توقفت بسبب عجز الجانب اللبناني عن تقديم رقم موحّد لخسائر المالية العامة خلال كل مرحلة ما بعد الطائف. ومن المؤكد أنه من دون تحديد علمي وحقيقي لهذه الخسائر لا يمكن التفكير بأي مساعدة من الصندوق أو غيره . لذا شدد الرئيس الفرنسي في خطابه الأخير على التحقيق المالي والتدقيق الجنائي، الكفيل بفهم مآلات التحويلات المالية التي جرت من المصرف المركزي، ونوعية العمليات التي أدّت إلى تبديد السيولة من المصرف. مع العلم أن الفرنسيين يدركون أن التدقيق الجنائي الذي بدأ مؤخراً بمبادرة من الحكومة اللبنانية لن يؤدي سوى إلى تقرير أولي، يمكن البناء عليه لاحقاً لإطلاق تدقيق أعمق من قبل الحكومة الجديدة، بعد تذليل العقبات القانونية التي يمكن أن تحول دون كشف المعلومات المطلوبة.
ولأن الفرنسيين كرّسوا مسألة التدقيق الجنائي الفعلي كشرط لا يمكن تجاوزه إطلاقا قبل الحصول على أي دولار من المساعدات، تولوا هم بأنفسهم القيام بهذا التدقيق، فقام وفد نقدي ومالي وقانوني من البنك المركزي الفرنسي بزيارة بيروت واطلع على حسابات مصرف لبنان بغية إجراء نوع من التقييم للخطوات التي اتخذها في السنوات الأخيرة والتثبت من أسباب العجز الهائل، وهي مهمة أنجزت قبل أن تقلع مؤسسة “ألفاريس آند مارسال” بمهمتها التي تعاقدت بشأنها مع الحكومة اللبنانية من أجل اجراء التحقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي.
قبل ذلك فهم الفرنسيون، وخصوصا بعد لقاءاتهم المتعددة مع وفد جمعية المصارف في باريس، أهمية مطلب “صندوق النقد الدولي”، الذي اشترط منذ بداية مفاوضاته مع اللبنانيين إجراء هذا التدقيق قبل المضي قدماً بأي برنامج يمكن التفاهم عليه مع الحكومة اللبنانيّة.
المسألة لا تتعلق فقط بالجانب المالي، بل تدخل السياسة بقوة في هذا الملف، فاذا توفّرت الإرادة الفرنسية لكشف نتائج التدقيق الذي أجراه البنك المركزي الفرنسي في لبنان، فهل ستذهب الحكومة المقبلة، إذا تشكلت قريباً للمحاسبة وأخذ العبر، وتحميل الخسائر لمن حقق الأرباح الطائلة في المرحلة السابقة، وخصوصا السياسيين، والكل يعرف أنهم هربوا أموالهم وثرواتهم إلى الخارج قبل واثناء وبعد “ثورة 17 تشرين”.
الأمر لن يكون سهلاً أبداً، لأن ذلك يعني القطع نهائيا مع ثقافة وسلوك جماعة الطائف التي حكمت البلد لأكثر من ثلاثين عاما، ومجابهتهم، وها هو الثنائي الشيعي قد نسف مسار تشكيل حكومة مستقلين، أي حكومة تخرج من عباءة اتفاق الطائف وقواه السياسية، وكانت ذريعة التعطيل أن هذه الاتفاق منح وزارة المالية للطائفة الشيعية، الأمر الذي أنكرته سائر الأطرف الاخرى، ليس حباً بحكومة التكنوقراط المطلوبة، بل دفاعا عن مصالح وغايات سياسية تتعارض مع الثنائي الشيعي، تحت سقف الطائف المطلوب تجاوزه.
ومن ناحية ثانية، فإن التدقيق الجنائي يجب أن لا يقتصر على مصرف لبنان والقطاع المصرفي فقط، بل ينبغي أن يتم أيضاً في كل المؤسسات العامة، وخصوصا في وزارة المالية و”مؤسسة كهرباء لبنان”.
قبل البحث في تشكيل حكومة جديدة، وقد أعلن الرئيس سعد الحريري بالأمس انه مستعد لترؤسها على أساس الورقة الفرنسية، وفي صلبها التفاوض مع “صندوق النقد”، ينبغي أن تحدث الصدمة المالية في مكان ما، كأن يعلن المركزي الفرنسي حقيقة الوضع المالي في لبنان، كي لا تتكرر تجربة حكومة حسان دياب والمناطحة التي خاضتها ضد اللوبي المصرفي – السياسي – الطائفي، الذي أنتجته مرحلة ما بعد الطائف. فهل يفعلها ماكرون؟