مثله مثل كل الإجراءات المالية والتعاميم النقدية التي اتخذت منذ فجر 17 تشرين الاول من العام الماضي، أتى قرار “حبس السيولة” مفاجئاً ومعزولاً عن الواقع. وكأن الاقتصاد الوطني يدار بآلة التحكّم عند بُعد remote control، وليس مجموعة من التفاعلات والانعكاسات المتبادلة بعضها يؤثر على بعضها الآخر. وفي ظل انعدام الثقة بشكل مطلق بالطبقتين السياسية والنقدية أتت ردة الفعل على تخفيض سقف السحوبات بالليرة عنيفة. وهو ما تُرجم حرفياً بهجمة على المصارف، إما لسحب ما يمكن سحبه من أموال، وإما لتقديم طلبات تجديد البطاقات المصرفية أو الاستحصال على أخرى جديدة.
الصحوة المتأخرة
فجأة وعى المسؤولون على ان الكتلة النقدية بالعملة الوطنية تضخمت بـ 22 ألف مليار ليرة في غضون 6 أشهر فقط من هذا العام. والصدمة الأكبر كانت لهم، ان هذه الاموال لم يعد منها شيء إلى المصارف. ما يعني ان مافيات النفط والدواء والاتجار بالسلع والمواد الحياتية تستغل دعم مصرف لبنان من جهة، وتعمّق المضاربة على الليرة من جهة ثانية. وبالتالي فلا حل إلا بالضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه سحب أكثر من 4 ملايين ليرة شهرياً نقداً. ولا فرق ان كان مواطناً عادياً أو تاجراً أو قاطناً في المدينة أو في الريف حيث لا تسهيلات للتعامل بالنقد الكترونياً، أو لديه الثقافة المالية أم لا. وهكذا من دون إعداد مسبق أو حتى تهيئة المتعاملين مع المصارف والمؤسسات من الناحيتين المعنوية والتقنية لخفض السيولة بالليرة وشرح أسبابها وموجباتها تم اتخاذ القرار. هذا ولم يُجرَ التفريق بين من يملك حساباً جارياً بالليرة ومن يملك حساباً بالدولار بالنسبة الى امكانية سحب 4 آلاف دولار كحد أقصى شهرياً على أساس التعميم 151″.
“أن تأتي متأخراً خير من الّا تأتي أبداً”، مثال قد ينطبق على القرار. “فالمشكلة لم تكن بالتوقيت”، بحسب المستشار المالي غسان شماس، “انما بالآلية التي اتبعت. فعدا عن انها كانت مفاجئة ولا تراعي مبدأ التدرج بالعلاج المعتمد مع كافة الأمراض، فقد كان الاجدى بـ “المركزي” استبدال التهديد بحسم المبالغ التي تزيد عن 5 مليارات ليرة شهرياً من حسابات الودائع الموضوعة بفائدة 12 في المئة لديه، باشتراط تزويده والجهات الرقابية بلائحة الافراد والمؤسسات التي تتخطى السقوف ومساءلتها مع البنوك عن الأسباب، بواسطة لجنة الرقابة على المصارف. وليس معاقبة الجميع بهذه العملية”.
المصارف تضارب؟
يُسجل المراقبون ارتفاعاً مطرداً في حجم وكمية السحوبات بالليرة اللبنانية عقب تفجير المرفأ في الرابع من آب. وعلى الرغم من ان مصادر المصارف تبررها بتخطي السقوف الموضوعة لمساعدة المتضررين من الانفجار، نظراً للأعباء الكبيرة التي رتبها على الاسر والافراد، فان “حقيقة هذه السحوبات كانت بهدف شراء ما تدفق على لبنان من عملات صعبة، يُتوقع انها تخطت 1 مليار دولار”، بحسب شماس. ومن غير المستبعد ان تكون مصارف عدة متورطة في عملية شراء الدولار مباشرة من الاسواق لحساب عملائها”. وبحسب ما علم فان حاكم مصرف لبنان عاتب المصرفيين في اللقاء الأخير الذي جمعه مع جمعية المصارف وحمّلهم مسؤولية كبيرة في ما آلت اليه الامور. إلا ان ما بقي مجهولاً هو ان الحاكم كان قد طلب من المصارف تزويده بلائحة تبيّن هوية العملاء الذين استفادوا من هذا التجاوز ولأي أغراض وإن كان الغرض تجارياً أو للمضاربة أم لتهريب العملة أو خلافه”، يتساءل شماس.
التوقيت ليس بريئاً
قرار المركزي أصاب جوهر الازمة لكنه أخطأ بالآلية التنفيذية، بحسب الخبراء. أما لجهة التوقيت فلم يكن بريئاُ، فهو اعقب تصعيد رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، ورفضه المطلق رفع الدعم عن السلع والمنتجات رغم كل المخاطر المعروفة، فأتى قرار المركزي بحسب شماس “رسالة سياسية من الحاكم الى الحكومة بمظروف نقدي”. فاذا اردتم الاستمرار بالدعم سوف نكبح قدرة المواطنين على الاستيراد والاستهلاك وبالتالي لا حل لتجفيف الطلب على الدولار إلا خنق الإقتصاد.